Fiqh

كيف تقام الخلافة

 

:مقدمة
الحمد لله رب العالمين، الصلاة والسلام على رسوله الكريم. اما بعد: والمقصد لهذه المقالة أن تبين الأمة حاله في غياب الخلافة وترشدهم ان تقيم الخلافة بما يهدي الله ورسوله إليه. ولا ينفي أحد من المسلمين المخلصين بوجود الأحكام الشرعية. في حياتهم كونهم مؤمنين بما جاء بالله ورسوله لقوله سبحانه تعالى:
وَمَاۤ اٰتٰٮكُمُ الرَّسُوْلُ فَخُذُوْهُ وَ مَا نَهٰٮكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوْا‌ ۚ وَاتَّقُوا اللّٰهَ ‌ؕ اِنَّ اللّٰهَ شَدِيْدُ الْعِقَابِ‌ۘ” [الحشر: ٧])

بل القليل منهم من يعملون بإقامة الخلافة او يريدون إقامتها على الاقل. ورب كثير من الأمة يرون إقامتها غير محتمل بنفسهم لما يرون وضعية الحال وعرقلتها في إقامة الخلافة. والأحزاب الذين يعملون بإقامتها يفصلون من الأمة برأيهم واجتهادهم في إقامة الخلافة . ولكن الخلافة لا تقام إلا بالأمة وإيجاد رأي العام بينهم. ولذلك أخصص هذا البحث إلى الأمة كلها دون الاشتراك مع أي من الأحزاب لكي تكون هذه المقالة عامة للأمة.

أما مسألة الخلافة فهي مسألة حيوية للأمة جميعا فلا بد إقامتها في اسرع وقت لأنها مؤسسة التي بها تطبق الأحكام الشرعية كافة كما أمر الله ورسوله ولأنها مؤسسة التي بها يحمل الإسلام الى العالم كما بعث الله نبيه الكريم لتحقيق هذه المهمة. فهاهنا أقدم هذا البحث للأمة وكوني منهم لكي يرشدون إلى إقامة الخلافة بهداية القرآن والسنة.

  1. 1.مهمة الرسول

وقد بعث الله الخاتم النبي عليه الصلاة والسلام الى الأمة بمهمة معينة وقد اوفى هذه المهمة وتركها الى الامة لكي تحملها بنيابته. ولذلك علينا معرفة  مهمة الرسول التي بعث بها إلى العالم لكي نبلغها إلى العالم. يبين الله سبحانه تعالى مهمة الرسول في الآيات التالية:

“هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الجمعة: 2].

“هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ” [التوبة:33]

نفهم من هذه الآيات أن المهمة للرسول هي أن يجعل الناس مؤمنين ثم يعلمهم الأحكام الشرعية وإظهار الدين على كل الأديان.  هذه المهمة التي بعث بها الرسول عليه الصلاة والسلام هي نفس المهمة التي فرضت علينا في غياب الرسول عليه الصلاة والسلام. فإنه واجب علينا اتباع هذه المهمة واتمامها الى يوم القيامة لأنه لا نبي ورسولا من بعده وأن الأمة قد حملت هذه المهمة من بعده، فقال عليه الصلاة والسلام:  روى الإمام أحمد وأصحاب السنن عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

«إن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا، إنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر». عن أبي هريرة  قال: قال رسول الله :

كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي، وسيكون خلفاء فيكثرون، قالوا: يا رسول الله، فما تأمرنا؟ قال: أوفوا ببيعة الأول فالأول، أعطوهم حقهم، واسألوا الله الذي لكم، فإن الله سائلهم عما استرعاهم]، متفق عليه. وقال سبحانه تعالى: “وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ“[آل عمران:144] أي أنه لا يجوز لأحد من الأمة أن ينقلب حتى في موت نبينا عليه الصلاة والسلام. ولذلك فالواجب على الأمة حمل  هذه المهمة  وإتمامها إلى يوم القيامة كقوله عليه الصلاة والسلام : “الجهاد ماض”.

أما مهمة إظهار الدين على كل الأديان، فإنه يتم أساسا بالجهاد على الكفار عند الخلافة فلا نناقشها في هذه المسألة. وأما المهمة التي وردت في سورة الجمعة، فهو التي نود التوضيح خاصة في الوضعية التي التي وجدت  في الأمة في غياب الخلافة.

  1. 2.المجال

المجال يعني حقد او ميدان او نطاق. وقيل أفسح المجال إذا أعطاه فرصة ليتقدم. أما المجال في الشرع فهو المنطقة التي تبتدع الدعوة طبعا حيث تركز فيها أنشطة لبدع الدعوة وإقامة القاعدة لحمل الإسلام إلى سائر العالم. الأصل أن الأرض كلها مناسبة لتطبيق الإسلام وقد أرسل الله النبي عليه الصلاة والسلام إلى العالم كله.

وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ” (سورة الأنبياء 107) وقال سبحانه تعالى: (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ)(سورة التكوير 27).

وباالرغم , لا بد له أن يبدع الدعوة في مكان معين. فالرسول عليه الصلاة والسلام بدأ دعوته في مكة المكرمة وما حولها من جزيرة العرب فقال سبحانه تعالى:

وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِه” (سورة الأنعام 92)

وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا” (سورة الشورى 7). و كانت مهمة الرسول فيها أي الجزيرة العرب أن يبلغ رسالته لكي يسلم أهل العرب ويقيم القاعدة فيها لتحمل الإسلام إلى سائر العالم.

 وكذلك لا بد للرسول أن يبتدع دعوته من قومهم بلسان قومهم كما أرسل الله الرسل من قبله بلسان قومهم. فقال سبحانه تعالى:

وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ” (4 سورة إبراهيم)

فلا بد للرسول أن يركز أنشطة دعوته الى مجال معين اي جزيرة العرب لكي اعتنق أهلها الإسلام ثم يحملونه الى سائر العالم. فأقام الرسول عليه الصلاة والسلام الدولة في المدينة التي كانت تندرج تحت مجاله فقام بتوسيع دولته الى كل اجزاء مجاله حتى يحمل أهلها الإسلام الى سائر العالم.

انه غير واقعي أن يقيم الدعوة الى العالم كله بشكل عشوائي دون التركيز على مكان معين. بل هو العكس لسنة الله الذي أرسل الرسل بلسان قومهم لقول سبحانه تعالى: “وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ“. فكانت جزيرة العرب مجالا لنبينا عليه الصلاة والسلام لبدء دعوته واقامة دولته وحمل رسالته إلى العالم كله. ولهذا لم يبلغ الرسول رسالته الى بلاد العجم قبل العرب. وانما ارسل الرسول السفراء إلى الملوك بعد تركيز وتمكين الدولة في بلاد العرب بعد معاهدة الحديبية. ولهذا لم يطلب النصرة من ملك الحبشة عندما كان المجتمع  في المكة جامداً بل أمر أصحابه بالهجرة إليه.

فنقول المجال الذي حدد الله للنبي عليه الصلاة والسلام هو جزيرة العرب كله لقوله سبحانه تعالى:

هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ” (سورة الجمعة). وقوله “فِي الْأُمِّيِّينَ” اي العرب وقوله “وَآخَرِينَ مِنْهُمْ ” اي العجم. وكذلك أخبر الله  في هذه الآية مهمة الرسول في هذا المجال وهو أن يزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة. “التزكية” في هذه الآية يعني الإسلام والحكمة يعني السنة.  فتكون تلاوة آيات الله  من أجل تزكية الناس أي إسلامهم وتعليم الكتاب والحكمة من أجل  معرفتهم بالأحكام الشرعية. هذه منطوقة من هذه الآية.

الأصل في معرفة العلم أن يكون علما نافعا كقول عليه الصلاة والسلام “سَلُوا اللَّهَ عِلْمًا نَافِعًا وَتَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ” ولذلك الأصل في تعليم الأحكام الشرعية أن تطبقه بين الناس فلا تطبق الأحكام الشرعية الا  باقامة الدولة. وان لا , فلا ينفع بمعرفة الأحكام الشرعية. فقد علم الرسول عليه الصلاة والسلام الأحكام الشرعية للناس من خلال تطبيقها  كدولة في المدينة.  ولذلك مفهوم تعليم الأحكام الشرعية في هذه الاية هو تطبيق الاحكام الشرعية بمثابة الدولة.  ولذلك كانت جزيرة العرب مجالا لنبينا عليه الصلاة والسلام حيث بدأ دعوته في القريش فكفروا به  ثم خرج إلى الطائف ودعا أهلها إلى الإسلام فكفروا به ثم عرض نفسه على قبائل العرب فدعاهم إلى الإسلام ثم طلب منهم النصرة اليه  حتى اعتنق الأوس والخزرج الإسلام ونصروه ليقيم الرسول الدولة في المدينة مصدقا لقوله تعالى :

هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ

فنفهم من هذه الآية  المهمة  التي أرسل بها الرسول عليه الصلاة والسلام وهي ان يجعل اهل العرب مسلمين ويقيم فيهم الدولة ليعلمهم الأحكام الشرعية بمثابة تطبيقها ثم ان يجعلهم يحملون الإسلام الى سائر العالم كقول سبحانه تعالى:

وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ ” أي العجم.

لا يقال هنا إن المراد “في الأميين” هو القريش دون العرب. لا يقال ذالك لان القول “لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ” تنفي هذا المعنى و لم تدخل القريش الاسلام الا بعد فتح مكة. بل المراد في قوله سبحانه “لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ” اي العجم. اخرجه البخاري وقد روى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رضى الله عنه قَالَ:

كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الْجُمُعَةِ ‏{‏وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ‏}‏ قَالَ قُلْتُ مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَلَمْ يُرَاجِعْهُ حَتَّى سَأَلَ ثَلاَثًا، وَفِينَا سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ، وَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدَهُ عَلَى سَلْمَانَ ثُمَّ قَالَ ‏”‏ لَوْ كَانَ الإِيمَانُ عِنْدَ الثُّرَيَّا لَنَالَهُ رِجَالٌ ـ أَوْ رَجُلٌ ـ مِنْ هَؤُلاَءِ ‏”‏‏.‏ (انتهى)

وكذلك لا يقال إن المراد “في الأميين” هو الأوس والخزرج دون قريش وغيرهم من العرب. لا يقال ذلك لأن النبي بدأ دعوته في  القريش اولا وتلا عليهم آيات الله قبل ان يهاجر الى المدينة. لا يقال ذلك لأن الأوس والخزرج قد لحق بهم القريش بعد فتح مكة  كقوله سبحانه تعالى: “وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا”  أُمَّ الْقُرَى اي مكة.

والخلاصة, أن المراد “بالأميين” هم العرب كلهم يتضمن فيه القريش وأهل المدينة وغيرهم من العرب. وكان نزول القرآن على سبعة أحرف ما  يدل على أنه منزل بلسان جميع العرب وليس بلسان القريش فقط.

قال رسول االله   : “إِنَّ هذَا الْقُرآنَ أُنزِلَ علَى سبعة أَحرف فَاقْرءُوا ما تيسر منهم”  وقال:  “أَقْرأَنِي جِبرِيلُ علَى حرف فَراجعته فَلَم أَزلْ أَستزِيده ،ويزِيدنِي حتى انتهى إِلَى سبعة أَحرف” الترجيح في معنى الأحرف السبعة هو سبع لهجات القبائل العرب وقيل أنهم  قريش و تميم وقيس وأسد و هذيل و قسم من كنانة و قسم من الطائيين. هذا النزول على سبعة أحرف هو من أجل التسهيل لكي يفهم الناس القرآن مبينا لقوله عليه الصلاة والسلام  في هذا الحديث: “فَاقْرءُوا ما تيسر منهم“. وفي رواية أخرى عَنْ أُبَىِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ لَقِيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جِبْرِيلَ فَقَالَ ‏ “‏ يَا جِبْرِيلُ إِنِّي بُعِثْتُ إِلَى أُمَّةٍ أُمِّيِّينَ مِنْهُمُ الْعَجُوزُ وَالشَّيْخُ الْكَبِيرُ وَالْغُلاَمُ وَالْجَارِيَةُ وَالرَّجُلُ الَّذِي لَمْ يَقْرَأْ كِتَابًا قَطُّ ‏”‏ ‏.‏ قَالَ يَا مُحَمَّدُ إِنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ ‏. (الترمذي).

 أما قول عثمان رضي الله عنه إذا  شكل لجنة وأمر أن يكتبوا المصاحف: “ما اختلفتم وزيد فاكتبوه بلغة قريش فإنه نزل بلغتهم”, فقوله بالنسبة إلى كتابة المصاحف وليس بقراءات القرآن.  ولقد عرضت على لجنة مشكلة أثناء النسخ وهـي الاختلاف في كتابة “التابوت”. أخرج الترمذي قال ابن شهاب: اختلفوا يومئذ في (التابوت) فقال زيد: (التابوة) وقال ابن الزبير وسعيد بن العاص (التابوت) فرفع اختلافهم إلى عثمان، فقال اكتبوه (التابوت) فإنه بلسان قريش. (). ولذلك لا يقال إن القرآن نزل بلسان قريش.  لا يقال ذلك لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } [الزخرف: 3] ولم يقل قريشا. وكذلك قد وجدت قراءات غير قريش في القرآن الكريم. وقال القرطبي في تفسيره:

” القرطبي  في التفسير(1 / 44):

وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ: أَنَّهُ أَرَادَ قُرَيْشًا مِنَ الْعَرَبِ دُونَ غَيْرِهَا، كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَقُولَ: أَرَادَ لُغَةَ عَدْنَانَ دُونَ قَحْطَانَ، أَوْ رَبِيعَةَ دُونَ مُضَرَ، لِأَنَّ اسْمَ الْعَرَبِ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ هَذِهِ الْقَبَائِلِ تَنَاوُلًا وَاحِدًا. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: قَوْلُ مَنْ قَالَ إِنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ بِلُغَةِ قُرَيْشٍ مَعْنَاهُ عِنْدِي فِي الْأَغْلَبِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، لِأَنَّ غَيْرَ لُغَةِ قُرَيْشٍ مَوْجُودَةٌ فِي صَحِيحِ الْقِرَاءَاتِ مِنْ تَحْقِيقِ الْهَمَزَاتِ وَنَحْوِهَا، وَقُرَيْشٌ لَا تَهْمِزُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ” أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ” أَيْ فِيهِ عِبَارَةُ سَبْعِ قَبَائِلَ بِلُغَةِ جُمْلَتِهَا نَزَلَ الْقُرْآنُ، فَيُعَبِّرُ عَنِ الْمَعْنَى فِيهِ مَرَّةً بِعِبَارَةِ قُرَيْشٍ، وَمَرَّةً بِعِبَارَةِ هُذَيْلٍ، وَمَرَّةً بِغَيْرِ ذَلِكَ بِحَسَبِ الْأَفْصَحِ وَالْأَوْجَزِ فِي اللَّفْظِ، أَلَّا تَرَى ان” فطر” معناه عند غير قريش: ابتدأ (خلق الشيء وعمله)  فَجَاءَتْ فِي الْقُرْآنِ فَلَمْ تَتَّجِهْ لِابْنِ عَبَّاسٍ، حَتَّى اخْتَصَمَ إِلَيْهِ أَعْرَابِيَّانِ فِي بِئْرٍ فَقَالَ أَحَدُهُمَا: أَنَا فَطَرْتُهَا، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَفَهِمْتُ حِينَئِذٍ مَوْضِعَ قَوْلِهِ تَعَالَى” فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ”. وقال ايضا: ما كنت ادري معنى حينئذ موضع قوله تعالى” رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ  حَتَّى سَمِعْتُ بِنْتَ ذِي يَزِنَ تَقُولُ لِزَوْجِهَا:” تَعَالَ أُفَاتِحْكَ، أَيْ أُحَاكِمْكَ. وَكَذَلِكَ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَكَانَ لَا يَفْهَمُ مَعْنَى قَوْلِهِ تعالى” أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ”  أَيْ عَلَى تَنَقُّصٍ لَهُمْ.” (انتهى)

ولهذا أن القرآن نزل بلسان العرب وليس بلسان قريش دون العرب. فكون نزول القرآن بلسان العرب يدل على  أن الله قد حدد الجزيرة العرب مجالا  للنبي لبدء دعوته واقامة الدولة ليحمل الإسلام الى سائر العالم.

وكذلك فإنه من الطبيعي والحتمي أن يعتنق الإسلام كل من القبائل العرب ليحملوا الإسلام إلى سائر العالم. ولذلك قد برئ الله ورسوله من المشركين لما ظهر الإسلام بعد غزوة تبوك فقال سبحانه وتعالى:

“بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2) وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (3)” ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: “لا يجتمع دينان في جزيرة العرب”

فمن هذه الآيات نقول إن الله قد حدد جزيرة العرب مجالا للنبي عليه الصلاة والسلام لبدء دعوته واقامة الدولة لكي يحمل الناس الإسلام الى سائر العالم. والله اعلم.

العلة التي يبين الشارع في تحديد الجزيرة العرب مجالا للنبي عليه الصلاة والسلام:

 قبل أن ندخل في هذا النقاش, فلنفهم غاية هذا البحث والضرورة علينا في معرفة المجال. كانت الغاية في تحديد المجال للنبي عليه الصلاة والسلام هي من أجل بدء دعوته وتزكية الناس فيه (أي إسلامهم) وإقامة الدولة (أي تعليمهم بالكتاب والسنة) وتبليغ الرسالة إلى العالم كله. فإنه من الحتمي أن يعتنق الإسلام قبائل العرب لتحقيق هذه الغاية لأن الرسول من العرب ولأن القرآن نزل بلسان العرب. فقام الدعوة وأقام الدولة وبلغ دعوته الى العالم بمثابة العرب. ولكن قد أصبح اليوم بعد مرور القرون حيث يفقد المسلمون الدولة التي أقامها الرسول بنفسها في المدينة. ولا توجد الآن بين المسلمين المقام لتطبيق الإسلام وحمله إلى العالم ولو يوجد المسلمون في الأرض. ولذلك فالواجب على المسلمين يحدد مجالهم لإقامة الدولة استئنافا لحمل دعوته إلى العالم. والغاية الآن هي من اجل تعليمهم بالاحكام الشرعية دون بدء الدعوة ثم يحمل الإسلام إلى العالم  وكانت الغاية للنبي هي من أجل بدء دعوته وتزكية الناس وتعليمهم بالكتاب والسنة بمثابة اقامة الدولة وحمل الدعوة العالم. وغاية النبي عليه الصلاة والسلام مجمل ما يتضمن فيها كل الأعمال التي ذكرناها أعلاه. فهذا يقتضي الى نزول القرآن بلسان قومهم. أما غايتنا في حاضر اليوم  فهي مقتصر الى  تعليمهم بالاحكام الشرعية من خلال إقامة الدولة وحمل الإسلام إلى العالم فحسب. ذلك بأن الله قد أكمل دينه وقد توقف الوحي والقرآن  والسنة حاضران بين الناس و يتم فعلا تزكية الناس في بلاد المسلمين على الأقل اي اسلامهم و الباقي هو تعليمهم بأحكام الشرعية من خلال تطبيقها كدولة. فما يفقد بيننا الا التطبيق وحمل الدعوة الى العالم. ولذلك غايتنا في حاضر اليوم مقتصر الى تعليمهم بالاحكام الشرعية من خلال إقامة الدولة وحمل الإسلام إلى العالم. لو كان غايتنا مجمل كما هي في غاية الرسول عليه الصلاة والسلام – فهذا  غير محتمل إلا  إذا فقدت الأمة القرآن الكريم- , لكان مجالنا كما هو في زمن الرسول عليه الصلاة والسلام فتكون مجالنا مقتصر إلى قوم معين وبذلك لكنا محتاج إلى نزول الوحي فإنه غير ممكن لأن الله وعد بحفظ القرآن الكريم إلى يوم القيامة. ولذلك علينا تحديد المجال لإقامة الدولة فحسب دون بدء الدعوة  لأن الإسلام قد بدأ وموجود في الواقع. ولذلك لا يكون مجالنا جزيرة العرب فحسب لأن غايتنا مقتصر من غاية الرسول المجمل. ولذلك كنا محتاجون إلى تحديد المجال جديدا. فلنخوض الى المقال:

حدد الله الجزيرة العرب مجالا للنبي عليه الصلاة والسلام من أجل لسانهم العرب لأن الله أرسل الرسل بالسنة قومهم فقال سبحانه وتعالى:

وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ” ( سورة إبراهيم 4 ). وكذلك أرسل الله نبينا عليه الصلاة والسلام في العرب بلسان العرب فقال سبحانه تعالى:

وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا” (سورة الشورى 7).

 وقد علل الله نزول القرآن بلسان العرب بأنه يفهم الناس القرآن الكريم صريحة دون مبهمة وبشكل يسير. فقالها سبحانه تعالى في آيات متعددة:

{ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف: 2] أَيْ لِكَيْ تَعْلَمُوا مَعَانِيَهُ، وَتَفْهَمُوا مَا فِيهِ.

{وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا (113) } [طه: 113] اي فيه كثير من الوعيد بلسان العرب فيخافون الله  فَيَجْتَنِبُونَ مَعَاصِيَهِ، وَيَحْذَرُونَ عِقَابَهُ أو يتذكرون من هذه الموعظة.

{وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (197) وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199)} [الشعراء: 192-199]

{ وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28) }  [الزمر: 27-28] وقوله “غَيْرَ ذِي عِوَجٍ” اي غَيْرُ مُخْتَلِفٍ او غَيْرُ ذي لبس حتى يفهم الناس ما أراد به دون لبس أو مبهمة لكي يتقون.

{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) } [الشورى: 7] وقوله  “أُمَّ الْقُرَى” اي اهل المكة فانذارهم يكون طبعا بلسان انفسهم. وان لا , فلا يفهمون الانذار.

 { حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) } [الزخرف: 3] وقوله “لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ” أَيْ تَفْهَمُونَ أَحْكَامَهُ وَمَعَانِيهِ.

 { وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ (12)} [الزخرف: 3]  لا يبلغ الإنذار والبشارة إلا بفهم ما جاء بهما القرآن الكريم. وقد أكد هذا بقول سبحانه تعالى: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (97) } [مريم: 97] أَيِ جَعَلْنَا الٌقران عربيا لتنذر وتبشر به بشكل التسهيل. وقال سبحانه تعالى: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58)} [الدخان: 58]  اي جعلناه سَهْلًا عَلَى مَنْ تَدَبَّرَهُ وَتَأَمَّلَهُ بلسانك العرب.

 وقال سبحانه تعالى أيضا :{ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44) } [فصلت: 44]

يتبين من هذه الأدلة على أن الله نزل القرآن بلسان العرب من أجل يفهم الناس ما جاء به سهلا وبذلك يكون الناس متقين وعاقلين وذاكرين. وقوله سبحانه تعالى في نزول القرآن بلسان العرب: “… لِيُبَيِّنَ لَهُمْ” و “…لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا” “… لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ“و “…لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ”  “…لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا ” و”…يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا” و “…يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ” وهذه الآيات تدل العلة التي من أجل نزل القرآن بلسان العرب. وهي من أجل تبيان الناس آياته بشكل يسير لكي يؤمنون بها ويعقلون ما جاء بها من أحكامها ومعانيها ويتقون بها.

وقد اكدها السنة النبوية فقال عليه الصلاة والسلام: “إِنَّ هذَا الْقُرآنَ أُنزِلَ علَى سبعة أَحرف فَاقْرءُوا ما تيسر منهم” أي أنزل على سبعة أحرف لكي يقرأونه سهلا ويفهمونه يسيرا.  وفي رواية أخرى عَنْ أُبَىِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ لَقِيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جِبْرِيلَ فَقَالَ ‏ “‏ يَا جِبْرِيلُ إِنِّي بُعِثْتُ إِلَى أُمَّةٍ أُمِّيِّينَ مِنْهُمُ الْعَجُوزُ وَالشَّيْخُ الْكَبِيرُ وَالْغُلاَمُ وَالْجَارِيَةُ وَالرَّجُلُ الَّذِي لَمْ يَقْرَأْ كِتَابًا قَطُّ ‏”‏ ‏.‏ قَالَ يَا مُحَمَّدُ إِنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ ‏. (الترمذي). أي يجعل الله القرآن يسرا لكي يفهم الناس القرآن حتى الأميين منهم.  وقد وردت كثير من الأحاديث في هذا البحث وننقل منها ما يلي:

“وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: كُنْتُ فِي الْمَسْجِدِ فَدَخَلَ رَجُلٌ يُصَلِّي فَقَرَأَ قِرَاءَةً أَنْكَرْتُهَا عَلَيْهِ ثُمَّ دَخَلَ آخَرُ فَقَرَأَ قِرَاءَةً سِوَى قِرَاءَةِ صَاحِبِهِ فَلَمَّا قَضَيْنَا الصَّلَاةَ دَخَلْنَا جَمِيعًا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ إِنَّ هَذَا قَرَأَ قِرَاءَةً أَنْكَرْتُهَا عَلَيْهِ وَدخل آخر فَقَرَأَ سوى قِرَاءَة صَاحبه فَأَمَرَهُمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَرَآ فَحَسَّنَ شَأْنَهُمَا فَسَقَطَ فِي نَفْسِي مِنَ التَّكْذِيبِ وَلَا إِذْ كُنْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَلَمَّا رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا قَدْ غَشِيَنِي ضَرَبَ فِي صَدْرِي فَفِضْت عَرَقًا وكأنما أنظر إِلَى الله عز وَجل فَرَقَا فَقَالَ لِي: «يَا أُبَيُّ أُرْسِلَ إِلَيَّ أَن اقْرَأِ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفٍ فَرَدَدْتُ إِلَيْهِ أَنْ هَوِّنْ عَلَى أُمَّتِي فَرَدَّ إِلَيَّ الثَّانِيَةَ اقْرَأْهُ عَلَى حَرْفَيْنِ فَرَدَّدَتْ إِلَيْهِ أَنْ هَوِّنْ عَلَى أُمَّتِي فَرَدَّ إِلَيَّ الثَّالِثَةِ اقْرَأْهُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ وَلَكَ بِكُلِّ رَدَّةٍ رَدَدْتُكَهَا مَسْأَلَةٌ تَسْأَلُنِيهَا فَقُلْتُ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِأُمَّتِي اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِأُمَّتِي وَأَخَّرْتُ الثَّالِثَةَ لِيَوْمٍ يَرْغَبُ إِلَيَّ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ حَتَّى إِبْرَاهِيم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم»” . رَوَاهُ مُسلم اي نزل القرآن على سبعة أحرف هونا على الأمة.

دَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ، قَالَ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ، قَالَ حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ ـ رضى الله عنهما ـ حَدَّثَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ ‏ “‏ أَقْرَأَنِي جِبْرِيلُ عَلَى حَرْفٍ فَرَاجَعْتُهُ، فَلَمْ أَزَلْ أَسْتَزِيدُهُ وَيَزِيدُنِي حَتَّى انْتَهَى إِلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ ‏”‏‏.‏

إذا نظرنا في هذه الآيات والأحاديث, نجد ان فيها علة صريحة في نزول القرآن بلسان العرب وهو من أجل تبيان الناس آياته بشكل يسير لكي يؤمنون بها ويعقلون ما جاء بها من أحكامها ومعانيها ويتقون بها.  قلنا سابقا ان الغاية للرسول في مجاله الجزيرة العرب هو بدء التزكية الناس (اي اسلامهم) وتعليمهم بالكتاب والسنة (أي بمثابة إقامة الدولة)   ومن ثم حمل الإسلام إلى العالم. هذا يستدعي له  نزول القران باللغة العربية ليبين للناس بشكل يسير كما علل الله في الآيات المتعددة. ولذلك نقول العلة التي يبين الشارع في تحديد الجزيرة العرب مجالا للنبي عليه الصلاة والسلام هي من اجل  تبيان الناس ما جاء به القرآن الكريم بشكل يسير ليكونوا مسلمين ومتعلمين الأحكام الشريعة بمثابة الدولة ومن ثم يحملون الإسلام الى سائر العالم.

وجوب تزكية الناس قبل تعليمهم الكتاب والسنة عند فقد الخلافة:

وإذا نظرنا الآيات التي أخبر الله فيها مهمة الرسول, نجد أن فيها ترتيب وطريقة المتسلسلة لبدء دعوته وإقامة الدولة وحمل الإسلام إلى العالم. فقال سبحانه تعالى:

{كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُون} [البقرة: 151].  وقال ايضا: { لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [آل عمران: 164] . وقال ايضا: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الجمعة: 2]

ففي هذه الآيات الثالثة, يذكر الله طريقة متسلسلة لدعوة الرسول في الناس وهو أن يزكيهم قبل يعلّمهم الكتاب والحكمة. وقد وردت آية أخرى تذكر فيها نفس المهمة بل تغيرت فيها طريقة المتسلسلة فقال سبحانه تعالى:

{رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [البقرة: 129] .  ففي هذه الآية  تغيرت طريقة متسلسلة لدعوة الرسول في الناس وهو أن يعلِّمهم الكتاب والسنة قبل تزكيتهم. وكذلك هذا دعاء ابراهيم فتقبل الله سبحانه تعالى دعاء إبراهيم لقول نبينا عليه الصلاة والسلام: “…انا دعاء ابراهيم…” هذا التغييرلا يتغاضى عنه لأن كل لفظ في القرآن وحي من الله ولا يكلم الله فيه عبثا.

فإذا بحثنا سيرة نبينا عليه الصلاة والسلام وجدنا البيان لهذه الطريقة المتسلسلة وتغييره. فنقول ان تغيُّر طريقة متسلسلة للدعوة التي امر الله بها متعلق بحقيقة الامر وحقيقة المكان التي يحمل فيها الدعوة. فنبينا عليه الصلاة والسلام قام بكليهما الطريقتين المتسلسلتين بل في الحقيقتين المختلفتين. قبل إقامة الدولة، أن الرسول عليه الصلاة والسلام قام بتزكية الناس قبل تعليمهم بالأحكام الشرعية.عندما بدأ الرسول دعوته في مكة, أنزل الله سبحانه تعالى الآيات متعلقة بتزكية الناس لكي يؤمنوا بالله ورسله واليوم الآخرة. وكذلك أنه قام بتعليمهم الأحكام الشرعية على المسلمين وأهل الذمة بعد اقامة الخلافة من خلال تطبيق الأحكام الشرعية.

 عندما أقام الرسول الدولة في المدينة, كانت معظم نزول الآيات متعلقة بتعليم الناس بأحكام الشرعية.

هذا ما نفهم من قول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فقالت:

(إنما نزل أوَّل ما نزل منه – أي القرآن – سورة من المُفَصَّل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر لقالوا: لا ندع الخمر أبدا) رواه البخاري.

 هذا يدل بصريح على أنه قام بتزكية الناس قبل تعليمهم بأحكام الشرعية خاصة في الفترة المكية أي قبل إقامة الدولة. فالرسول عليه الصلاة والسلام دعا قريشا إلى الإسلام وتلا عليهم آيات الله  لكي يؤمنوا به فكفروا. وقد دعا بني ثقيف في الطائف فأبوا ثم عرض نفسه على قبائل العرب فدعاهم إلى الإسلام ثم طلب منهم النصرة فقبل دعوته الاوسُ والخزرجُ فأصبحوا مسلمين ثم أخذ منهم الرسول بيعة النساء التي تنص فيها جوهر الإسلام ثم أرسل إليهم مصعب بن عمير رضي الله عنه ليقيم تزكيتهم فأعد المدينة لإقامة الدولة ثم أقام الرسول الدولة في المدينة من حيث علم الناس الأحكام الشرعية من خلال تطبيقها كدولة. كل ذلك يدل على  أنه قام بتزكية الناس قبل تعليمهم بأحكام الشرعية في الفترة المكية قبل إقامة الدولة في المدينة.

وأما في المدينة بعد إقامة الدولة، فقام تعليم الأحكام الشرعية من خلال تطبيقها على المسلمين وعلى أهل الذمة. فأنزل الله سبحانه فيها الآيات متعلقة بأحكام الشريعة وتطبيقها كدولة. وكذلك عندما فرض الله القتال، فإن الرسول لم يقاتل قوما حتى دعاهم إلى الإسلام. وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: “ما قاتل رسول الله قوما حتى دعاهم” أخرجه أحمد والدارمي والحاكم. ومن المعلوم في الشريعة أنه لا يجوز قتال قوم قبل دعوتهم إلى الإسلام، فإن أبوا دخول الإسلام فالواجب على المسلمين  تطبيق الأحكام الشرعية فيها وأخذ الجزية منهم. هذا كله يدل بصريح على أن الرسول قدم دعوته إلى الإسلام قبل تعليمهم بأحكام الشرعية من خلال تطبيقها في الفترة المدنية.

وعلاوة على ذلك، فإذا فصحنا هذا الأمر من سيرة موسى الرسول عليه الصلاة والسلام الذي أنزل الله إليه التوراة، وجدنا أن موسى عليه الصلاة والسلام كان يتلو على بني إسرائيل ويعلّمهم الكتاب ويزكيهم. ولكن لم يتزكون بنوا اسرائيل الا قليل. وقد شاهد بنوا اسرائيل غرق فرعون في البحر ولم يتزكون بها. ثم خرج موسى عليه الصلاة والسلام أربعين ليلة ليحصل على الكتاب. فلما رجع موسى إليهم, وجدهم يتخذون العجل الٰه، ولم يتزكون. كانوا يتعلمون الكتاب من بعده ولكن لم يتزكون به ولم يزالوا في الشرك والظلم والمعاصي كما قال الله سبحانه تعالى:

{أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 75]. وقال سبحانه:

{وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [البقرة: 78] وقال سبحانه تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [البقرة: 44]. وقال سبحانه تعالى:

{مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } [الجمعة: 5]. تدل هذه الآيات أن بني إسرائيل كانوا يتلون التوراة ولم يتزكون بها. وإن كانوا يتزكون لكان الأمر أسهل عليهم أن يعملوا بما جاء به الكتاب. ولذلك قال سبحانه تعالى: “لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ” “لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ” أي لم ينفعهم علمهم بالكتاب لأنهم لم يتزكون. هذا يدل أفضلية التزكية على تعليمهم بالكتاب والسنة على كل الحال سواءً أ كانت دولة الإسلام موجودة ام لا.

أما إذا كانت الدولة موجودة فتزكية الناس مستحب لقبولهم تطبيق أحكام الشريعة بشكل يسير. ذلك بأن الرسول لم يقاتل قوما حتى دعاهم إلى الإسلام.  عن ابن عباس رضي الله عنه قال:

“ما قاتل رسول الله قوما حتى دعاهم” فنقول بمندوب تزكية الناس عند الدولة لأن الرسول لم ينتظر منهم قبول الإسلام بل منحهم وقتا فإن أبوا قاتلهم الرسول ليطبق فيهم الأحكام الشرعية. وبعبارة أخرى ، يتم فيها تعليم الناس الأحكام الشرعية قبل تزكيتهم بالإسلام. ولذلك لم نقل واجبا بل مندوبا لتزكية الناس قبل تعليمهم في الدولة. ولهذا نقول إنه يستحب أن يزكّي الناس في الدولة أي يدعوهم إلى الإسلام بتلاوة آيات الله لكي يتفكرون ويؤمنون بها قبل أن يطبق عليهم أحكام الشرعية. فإن أبوا يطبق عليهم أحكام الشرعية كرها حتى يرون عدلها فيصبحون مسلمين طوعا من بعد. ففي هذه الحالة يتم تعليمهم الكتاب والسنة  أولا من خلال تطبيقهما كدولة ثم يتم تزكيتهم عند اعتناقهم الإسلام. هذا ما حدث عند اعتناق أهل الشام والفرس وغيرهما الإسلام بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام. وكذلك أنه واجب على الدولة أن تقود المجتمع بتقوى الله بعد إسلامهم و عليها إصلاح المجتمع إذا فسد.

أما إذا كانت الدولة غير موجودة فتزكية الناس واجب ليقيم فيهم الدولة التي من خلالها يتم تعليمهم بالكتاب والسنة. وإن لم يكن تزكيتهم فلا يطيق عليهم تطبيق الأحكام الشرعية اي لا يقام عليهم الخلافة لأن أهل الحل والعقد أي تمثيلهم وأهل القوة فيهم أي من الذي يملك السلطة لا يكونون مسلمين ليطبقوا أحكام الشريعة. فإنه واجب وشرط أن يكون هؤلاء مسلمين ليطبقوا الاسلام. ولذلك كان الرسول يدعو أهل مكة إلى الإسلام أي كان يحاول تزكيتهم ولكن قد كفروا به. وكذلك كان الرسول يدعو قبائل العرب إلى الإسلام قبل أن يطلب منهم النصرة. عن ابن عباس قال: حدثني علي ابن ابي طالب من فيه قال: “لما أمر الله رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أن يعرض نفسه على قبائل العرب خرج وأنا معه وأبو بكر فدفعنا إلى مجلس من مجالس العرب…فتقدم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فجلس وقام أبو بكر يظله بثوبه فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “أدعوكم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله وإلى أن تئونى وتنصرونى فإن قريشا ظاهرت على أمر الله وكذبت رسله واستغنت بالباطل عن الحق والله هو الغنى الحميد” فقال مفروق بن عمرو وإلى من تدعونا يا أخا قريش فوالله ما سمعت كلاما أحسن من هذا فتلا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – {قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم} إلى {فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون} [الأنعام: 151-153] فقال مفروق وإلى من تدعونا يا أخا قريش فوالله ما هذا من كلام أهل الأرض فتلا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – {إن الله يأمر بالعدل والإحسان} إلى قوله {لعلكم تذكرون} [النحل: 90] فقال معروف بن عمرو دعوت والله يا أخا قريش إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال ولقد أفك قوم كذبوك وظاهروا عليك وكأنه أحب أن يشركه فى الكلام هانئ بن قبيصة…الى اخر الحديث” (ابن حبان) اي ان الرسول عليه الصلاة والسلام دعاهم الى الاسلام فتلا عليهم القران ليتذكرون قبل ان يطلب منهم النصرة. وكذلك أخذ الرسول من الأوس والخزرج بيعة النساء التي ينص فيها تزكيتهم من الشرك وكبائر الإثم قبل أن يهاجر إليهم ليطبق الإسلام فيها. قَالَ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ: أَخَذَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا أَخَذَ عَلَى النِّسَاءِ سِتًّا: ” أَنْ لَا تُشْرِكُوا بِاللهِ شَيْئًا، وَلَا تَسْرِقُوا، وَلَا تَزْنُوا، وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ، وَلَا يَعْضَهُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَلَا تَعْصُونِي فِي مَعْرُوفٍ، فَمَنْ أَصَابَ مِنْكُمْ مِنْهُنَّ حَدًّا فَعُجِّلَ لَهُ عُقُوبَتُهُ فَهُوَ كَفَّارَتُهُ، وَإِنْ أُخِّرَ عَنْهُ، فَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ، وَإِنْ شَاءَ رَحِمَهُ ” مسند أحمد (37 / 341) أي أن الرسول عليه الصلاة والسلام أخد بيعة الإسلام قبل أن يأخذ منهم بيعة النصر.ثم أرسل معهم مصعب بن عمير رضي الله عنه ليدعو قومهم إلى الإسلام تهيئة لهجرة الرسول إليهم. فدعاهم مصعب بن عمير إلى الإسلام  “حَتَّى لَمْ تَبْقَ دَارٌ مِنْ دُورِ الْأَنْصَارِ إلَّا وَفِيهَا رِجَالٌ وَنِسَاءٌ مُسْلِمُونَ“، كما ورد سيرة ابن هشام (1 / 437). كل ذلك يدل على أن الرسول قام بتزكية الناس أي دعاهم الى الإسلام قبل تعليمهم الأحكام الشرعية قبل إقامة الدولة. لم نجد مثيلاً واحدًا  في الفترة المكي من حيث أنه قام بتعليم الكتاب والسنة من خلال دعوتهم الى تطبيقهما قبل دعوتهم إلى الإسلام. وهذه قرينة جازمة تدل بوجوب تزكية الناس قبل تعليمهم بالأحكام الشرعية عند فقد الدولة.ولهذا نقول إنه واجب أن يزكّي الناس في المكان التي تقام فيه الدولة قبل يطبق عليهم أحكام الشرعية.

ففي هذا السياق نفهم الترتيب وطريقة المتسلسلة التي أخبر الله في مهمة الرسول في الآيات الثلاثة وآية التي ورد فيها دعاء ابراهيم. فنقول إذا لم يكن الدولة فواجب أن يزكي الناس في المكان الذي تقام فيه الدولة قبل إقامة الدولة عليهم. فان تكن الدولة فالأولى أن يزكي الناس قبل تطبيق عليهم الأحكام الشرعية. 

ما هي المجال في حاضر اليوم لإقامة الخلافة :

اقامة الخلافة وأنشطة لها تندرج الى تطبيق الأحكام الشرعية وحمل الإسلام إلى العالم. هذه الغاية هي جزء من غاية الرسول التي من أجلها بعث الله الرسول إلى الأمة. كانت الغاية للنبي عليه الصلاة والسلام هي من أجل تزكية الناس (أي إسلامهم) و تعليمهم بالكتاب والسنة بمثابة  الدولة وتبليغ رسالته إلى العالم كله كقوله سبحانه تعالى:

{كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُون} [البقرة: 151].{ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [آل عمران: 164] {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الجمعة: 2].

وتحقيق هذه الغاية يقتضي الى نزول القرآن بلسان قومه وبدء الدعوة إليهم واقامة الدولة لكي يعتنق الإسلام كل من قبائل العرب ومن ثم حمل الإسلام الى سائر العالم. وقد حقق   نبينا عليه الصلاة والسلام هذه الغاية ونحن نشهد على ذلك. أما غايتنا في حاضر اليوم فهو مقتصر من غاية رسول الله وهي إقامة الدولة لكي يقوم بتعليم الناس الكتاب والسنة ويحمل إلى العالم من دون حاجة إلى بدء الدعوة ونزول الوحي. ذلك بأن الله قد تم وأكمل دينه الإسلام ووعد بحفظ القرآن وأن الرسول قد سبق دعوته في العرب واعتنق الإسلام العرب والعجم. وإنما علينا استئناف ما فقد أو فات وليس البدء من الصفر. ولذلك علينا تحديد غايتنا قبل تحديد المجال ليقيم الانشطة فيها. وقد سبقنا القول إن غايتنا مقتصر من غاية رسول الله لقول سبحانه تعالى: يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ.

فأقول في هذه الآية أنه قد تمت الآن  تزكية الناس أي إسلامهم ما يكفي لبدء تعليمهم الكتاب والسنة من خلال الدولة. وقد اعتنق ربع السكان العالم الاسلام ومنهم العرب والعجم حتى يتبين لهم القرآن الكريم وما جاء به دون فرق بين العرب والعجم. اما الان فيتبين القرآن للمسلمين دون فرق بين العرب والعجم فيتم تزكيتهم، فإنما الباقي هو تعليمهم بالكتاب والسنة و قد فقدها المسلمون منذ هدم الخلافة لانها في الأصل مؤسسة التي تقوم بتعليم الكتاب والسنة على الناس حقيقة من خلال تطبيق الأحكام الشرعية بشكل كامل. ولهذا نقول إن غايتنا اليوم هي إقامة الخلافة ومن ثم يتم تعليم الناس بالكتاب ومن ثم يستأنف حمل الإسلام إلى سائر العالم. ولتحقيق هذه الغاية أي إقامة الخلافة لتعليم الناس أحكام الشريعة ومن ثم تحمل الإسلام إلى العالم، ولتحقيق هذه الغاية، علينا نحدد المجال.

إنما المجال يكون في أحد الاحتمالات الرابعة: إما أن يكون المجال في:

١ العالم كله

٢ بلاد المسلمين

٣ بلاد العرب

٤ بلاد جزيرة العرب.

ولتحقيق هذه الغاية، لا يكون العالم كله مجالا لأن الأنشطة فيها يجب أن تكون متركزة فلا تكون الأنشطة متركزة إذا كان العالم كله مجالا لإقامة الخلافة. وعلاوة على ذلك ، يشترط إسلام الناس لتحقيق هذه الغاية أي يشترط تزكيتهم قبل تعليمهم بالكتاب والسنة من خلال إقامة الخلافة، فلا يعتنق الآن العالم كله الاسلام. وكذلك فإنها تنفي مفهوم المجال لأن المجال يكون في مكان معين وليس في كل مكان، وكذلك لم يتخذ الرسول العالم كله مجالًا بل كان يركز أعماله في مكان معين كما أمره الله سبحانه تعالى لكي يحمل الاسلام الى العالم كله. ولذلك فإنه لا يجوز تحديد العالم كله مجالا لتحقيق هذه الغاية.

 وكذلك لا يجوز تحديد المجال على جزيرة العرب فحسب او على بلاد العرب فحسب لكون لسان الناس فيه العرب. لا يجوز ذلك لأن العلة في تحديد الجزيرة العرب مجالا في زمن الرسول عليه الصلاة والسلام كانت من أجل تبيان الناس ما جاء به القرآن الكريم بشكل يسير لكي يؤمنون به و يتعلمون ويعملون بأحكامه ولكي يحملونه الى سائر العالم. وقد أصبح اليوم من حيث ان العرب والعجم كلهم سواءً في فهم القرآن حتى وقد اعتنق ربع السكان العالم الاسلام دون فرق بين العرب والعجم أي قد تمت تزكيتهم. وما دام تبيان القرآن يمتد إلى المسلمين دون الفرق بين العرب والعجم، فإنه لا يجوز اقتصار المجال الى بلاد العرب فحسب دون غيرهم من بلاد المسلمين. ولذلك نقول انه لا يجوز تقصير المجال الى الجزيرة العرب أو بلاد العرب فحسب.

لا يقال أن المراد بفهم القرآن هنا يعني معرفة كل من بلاغتها وفصاحتها وأحكامها فتكون بلاد العرب مناسبة لتحديد المجال إليها دون غيرهم من بلاد المسلمين. لا يقال ذلك لأن العلة في تحديد المجال هي من أجل فهم القرآن بشكل يسير حتى الأميين منهم يفهمون ويؤمنون به ويتزكون كقوله عليه الصلاة والسلام: ” يَا جِبْرِيلُ إِنِّي بُعِثْتُ إِلَى أُمَّةٍ أُمِّيِّينَ مِنْهُمُ الْعَجُوزُ وَالشَّيْخُ الْكَبِيرُ وَالْغُلاَمُ وَالْجَارِيَةُ وَالرَّجُلُ الَّذِي لَمْ يَقْرَأْ كِتَابًا قَطُّ” فأنزل الله القرآن على سبعة أحرف. أي المراد بنزول القرآن على سبعة أحرف هو من أجل يفهم عامة الناس القرآن بشكل يسير لكي يتزكون ويؤمنون به. ولذالك نقول المراد بفهم القرآن هنا لا يعني معرفة كل من بلاغتها وفصاحتها وأحكامها بل يكفي تدبرها ليكونوا مسلمين. هذا الأمر قد حصل على بلاد المسلمين كله دون فرق بين بلاد العرب والعجم. ولذلك نقول انه لا يجوز تقصير المجال الى الجزيرة العرب أو بلاد العرب فحسب لأن بلاد العرب والعجم سواءً في هذا الأمر.

 الباقي من هذه الاحتمالات هي بلاد المسلمين ما يتضمن فيها الجزيرة العرب وبلاد العرب وغيرهما من بلاد المسلمين. فأقول  هذا هو مجالنا اليوم لتحقيق غايتنا أي تعليمهم الكتاب والسنة من خلال إقامة الخلافة ومن ثم حمل الإسلام الى سائر العالم. ذلك بأنهم مسلمون في الاغلبية واسلامهم  أي تزكيتهم شرط وواجب لتحقيق الغاية أي تعليمهم بالكتاب والسنة من  خلال إقامة خلافة لقوله سبحانه تعالى:

{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الجمعة: 2]

وإذا نظرنا حقيقة بلاد المسلمين نجد انه يتم فيها تزكية الناس أي الناس فيها مسلمون. وما دام الناس فيها مسلمين، فإنه أسهل ليبين لهم تطبيق الأحكام الشرعية لأنهم يفهمون القرآن بشكل يسير ويؤمنون به فيتم تزكيتهم. وكذلك فإنه يسهل عليهم فهم الاحكام الشرعية لكونهم مسلمين. وهاهي علة التي يبين الله في تحديد المجال على الجزيرة العرب في زمن الرسول عليه الصلاة والسلام  ليتم وتزكيتهم وتعليمهم بالكتاب والسنة بشكل يسير. فيقاس الآن البلاد المسلمين على تحديد المجال لإقامة الخلافة لأنهم يتزكون  بالفعل بكونهم مسلمين لأنه أسهل عليهم تطبيق الأحكام الشرعية بشكل يسير لكونهم مسلمين.

لا يعتبر توعية الناس بالأحكام الشرعية منهجًا لاقامة الخلافة:

هناك  قد تكون الأمة على وضعيتين محتملتين في غياب الخلافة:

١) لا توجد الدولة والناس كلهم على الكفر،

٢)  لا توجد الدولة ويكون الناس مسلمين

 اذا لم توجد الدولة والناس على الكفر، فلأول أن يزكيهم بالإسلام ثم يقيم عليهم الدولة ليعلّمهم بالأحكام الشرعية من خلال تطبيقها. هذه مهمة التي أوفاها نبينا الكريم عليه الصلاة والسلام. فهذا صريح في سيرته والآيات التي أخبر الله عن مهمته.

اذا يكون الناس مسلمين مع فقد الخلافة فالأول أن يقيم الخلافة ثم يتم تعليمهم بالأحكام الشرعية من خلال تطبيقها كدولة. ففي هذا الحال فإنه لا يجوز جعلهم واعيين على أحكام الشريعة كنظام الحكم أو النظام الاقتصادي أو غيرهما قبل اقامة الخلافة. ذلك بأن الرسول لم يعلّم الناس بأحكام الشرعية كدولة في الفترة المكي لأن أهل مكة لم يؤمنوا فيها. وكذلك عندما أسلم الأوس والخزرج، فإنه لم يتركز بتعليمهم الأحكام الشرعية كدولة قبل إقامة عليهم الدولة. بل أخذ منهم البيعة النساء التي تنص فيها جوهر الإسلام فرديا مطابقا لقوله عليه الصلاة والسلام في بيعة النساء: “…فَمَنْ أَصَابَ مِنْكُمْ مِنْهُنَّ حَدًّا فَعُجِّلَ لَهُ عُقُوبَتُهُ فَهُوَ كَفَّارَتُهُ، وَإِنْ أُخِّرَ عَنْهُ، فَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ، وَإِنْ شَاءَ رَحِمَهُ” اي تظل هذه البيعة فردية ما لم تكن الدولة ليقيم عليهم العقوبة. أما نزول الأحكام الشرعية متعلقة بالصلاة وفرضها على المسلمين في الفترة المكي فإنها تعتبر فردية لأن المسلمين لم تكونوا مجتمعا ولم يكن لديهم دولة لتنظيم هذه الأحكام. اما تعليم النبي عليه الصلاة والسلام الأحكام الشرعية متعلقة بالصلاة كتوجيه الى بيت المقدس بدل التوجيه الى الكعبة كما ورد في الحديث عن الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ الانصاري:

” حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: فَحَدَّثَنِي مَعْبَدُ بْنُ كَعْبِ بْنِ مَالِكِ بْنِ أَبِي كَعْبِ بْنِ الْقَيْنِ، أَخُو بَنِي سَلِمَةَ، أَنَّ أَخَاهُ عُبَيْدَ اللهِ بْنَ كَعْبٍ، وَكَانَ مِنْ أَعْلَمِ الْأَنْصَارِ، حَدَّثَهُ أَنَّ أَبَاهُ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ، وَكَانَ كَعْبٌ مِمَّنْ شَهِدَ الْعَقَبَةَ، وَبَايَعَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَا، قَالَ: خَرَجْنَا فِي حُجَّاجِ قَوْمِنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَقَدْ صَلَّيْنَا وَفَقِهْنَا وَمَعَنَا الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ كَبِيرُنَا وَسَيِّدُنَا، فَلَمَّا تَوَجَّهْنَا لِسَفَرِنَا وَخَرَجْنَا مِنَ الْمَدِينَةِ، قَالَ الْبَرَاءُ لَنَا: يَا هَؤُلَاءِ، إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ وَاللهِ رَأْيًا، وَإِنِّي وَاللهِ مَا أَدْرِي تُوَافِقُونِي عَلَيْهِ أَمْ لَا، قَالَ: قُلْنَا لَهُ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: قَدْ رَأَيْتُ أَنْ لَا أَدَعَ هَذِهِ الْبَنِيَّةِ مِنِّي بِظَهْرٍ، يَعْنِي الْكَعْبَةَ، وَأَنْ أُصَلِّيَ إِلَيْهَا، قَالَ: فَقُلْنَا: وَاللهِ مَا بَلَغَنَا أَنَّ نَبِيَّنَا يُصَلِّي إِلَّا إِلَى الشَّامِ، وَمَا نُرِيدُ أَنْ نُخَالِفَهُ، فَقَالَ: إِنِّي أُصَلِّي إِلَيْهَا  ، قَالَ: فَقُلْنَا لَهُ: لَكِنَّا لَا نَفْعَلُ، فَكُنَّا  إِذَا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ صَلَّيْنَا إِلَى الشَّامِ وَصَلَّى إِلَى الْكَعْبَةِ، حَتَّى قَدِمْنَا مَكَّةَ، قَالَ أَخِي  : وَقَدْ كُنَّا عِبْنَا عَلَيْهِ مَا صَنَعَ، وَأَبَى إِلَّا الْإِقَامَةَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا قَدِمْنَا مَكَّةَ قَالَ: يَا ابْنَ أَخِي انْطَلِقْ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاسْأَلْهُ عَمَّا صَنَعْتُ فِي سَفَرِي هَذَا، فَإِنَّهُ وَاللهِ قَدْ وَقَعَ فِي نَفْسِي مِنْهُ شَيْءٌ لَمَّا رَأَيْتُ مِنْ خِلَافِكُمْ إِيَّايَ فِيهِ، قَالَ: فَخَرَجْنَا نَسْأَلُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكُنَّا لَا نَعْرِفُهُ لَمْ نَرَهُ قَبْلَ ذَلِكَ، فَلَقِيَنَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، فَسَأَلْنَاهُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: هَلْ تَعْرِفَانِهِ؟ قَالَ: قُلْنَا: لَا، قَالَ: فَهَلْ تَعْرِفَانِ الْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَمَّهُ؟ قُلْنَا: نَعَمْ، قَالَ: وَكُنَّا  نَعْرِفُ الْعَبَّاسَ، كَانَ لَا يَزَالُ يَقْدَمُ عَلَيْنَا تَاجِرًا، قَالَ: فَإِذَا دَخَلْتُمَا الْمَسْجِدَ فَهُوَ الرَّجُلُ الْجَالِسُ مَعَ الْعَبَّاسِ، قَالَ: فَدَخَلْنَا الْمَسْجِدَ فَإِذَا الْعَبَّاسُ جَالِسٌ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهُ جَالِسٌ فَسَلَّمْنَا، ثُمَّ جَلَسْنَا إِلَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْعَبَّاسِ: ” هَلتَعْرِفُ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ يَا أَبَا الْفَضْلِ؟ قَالَ: نَعَمْ هَذَا الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ سَيِّدُ قَوْمِهِ، وَهَذَا كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ، قَالَ: فَوَاللهِ مَا أَنْسَى قَوْلَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” الشَّاعِرُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَقَالَ الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ: يَا نَبِيَّ اللهِ إِنِّي خَرَجْتُ فِي سَفَرِي هَذَا، وَهَدَانِي اللهُ لِلْإِسْلَامِ، فَرَأَيْتُ أَنْ لَا أَجْعَلَ هَذِهِ الْبَنِيَّةَ مِنِّي بِظَهْرٍ، فَصَلَّيْتُ إِلَيْهَا، وَقَدْ خَالَفَنِي أَصْحَابِي فِي ذَلِكَ، حَتَّى وَقَعَ فِي نَفْسِي مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، فَمَاذَا تَرَى يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: ” لَقَدْ كُنْتَ عَلَى قِبْلَةٍ لَوْ صَبَرْتَ عَلَيْهَا قَالَ: فَرَجَعَ الْبَرَاءُ إِلَى قِبْلَةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلَّى مَعَنَا إِلَى الشَّامِ، قَالَ: وَأَهْلُهُ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ صَلَّى إِلَى الْكَعْبَةِ حَتَّى مَاتَ، وَلَيْسَ ذَلِكَ كَمَا قَالُوا، نَحْنُ أَعْلَمُ بِهِ مِنْهُمْ،”.

نفهم من هذا الحديث ان الرسول قد علم الْبَرَاء بْنُ مَعْرُورٍ الحكم متعلق بتوجيه الكعبة بعد اسلامه. بل ظل هذا الحكم فرديا حتى اقام الرسول الدولة في المدينة. ولهذا نرى الاختلاف عن كيفية صلاة الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ بعد ان يخرج الى المدينة بين الرواة.  ليس فيها تنظيم في تطبيق هذه الأحكام إليهم. وكذلك فلا يعتبر هذا التعليم منهجا لاقامة الخلافة لقوله عليه الصلاة والسلام من قبله في البيعة العقبة الاولى:

فَمَنْ أَصَابَ مِنْكُمْ مِنْهُنَّ حَدًّا فَعُجِّلَ لَهُ عُقُوبَتُهُ فَهُوَ كَفَّارَتُهُ، وَإِنْ أُخِّرَ عَنْهُ، فَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ، وَإِنْ شَاءَ رَحِمَهُ “. فهذا يدل بصريح أنه لا يجوز لمن يعمل على إقامة الخلافة أن يعلًم الناس الأحكام الشرعية لكي يكونوا واعيين على أنظمتها وأحكامها قبل إقامة الخلافة. فانه لا تعتبر رأيا عاما لجعلهم واعيين على الأحكام الشرعية لأنه مستحيل وغير واقعي ان يتم توعية الناس بأحكام الشرعية قبل اقامة الخلافة حتى في المكان التي تقام فيها الخلافة.

وقد قيل إن الله قد أكمل دين الإسلام منذ غيابه نبينا الكريم عليه الصلاة والسلام فالواجب على كل مسلم سواء أكانت الدولة ام لم تكن أن يعمل بأحكام الشرعية، فكيف يقال إنه لا يجوز توعية الناس بأحكام الشرعية وهم مكلفون بهذه. والجواب على ذلك هو أن الناس كلهم مكلفون بأحكام الشرعية سواء أكانت الدولة أم لا. إذ لم يكن الدولة، لا يكون هناك مؤسسة تطبق الأحكام الشرعية فيكون الناس يعملون بأحكام الشرعية  بنفسهم فرديا دون محاسبة من قبل الدولة فيترك هذا الأمر إلى الله فحسب كقول نبينا في بيعة النساء: “…وَإِنْ أُخِّرَ عَنْهُ، فَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ، وَإِنْ شَاءَ رَحِمَهُ”.  وهذا ما يدل في الأدلة التي اخرجناها في الباب “وجوب تزكية الناس قبل تعليمهم الكتاب والسنة عند فقد الخلافة”. ولذلك فإنه لا يجوز لمن يعمل على اقامة الخلافة أن يعلّم الناس الأحكام الشرعية كهيئتهم لقدوم الخلافة. فلا تعتبر أنشطتها من الأعمال لإقامة الخلافة. وعلاوة على ذلك فإنه مستحيل ان يقيم بتوعية الناس بأحكام الشرعية التي تخضع لإختلاف الرأي بينهم مطابقة للقاعدة الشرعية “أمر الإمام يرفع الخلاف“. بل هذا العمل لا يعتبر منهجا لإقامة الخلافة لأنه ليس من منهج التي أقام بها الرسول الدولة في المدينة.

وقد قيل إنه وجب معرفة الأحكام الشرعية كأنظمة مثل نظام الإجتماعية او نظام الحكم او نظام الإقتصادية حتى تطبق هذه الأنظمة منذ أول يوم الذي أقيمت الخلافة عليه، ولهذا يجب توعية الناس على هذه الأحكام الشرعية كأنظمة قبل اقامة الخلافة. لا يقال ذلك لأن معرفة هذه الأحكام الشرعية كأنظمة هي عمل العلماء سواء في الدولة أو عدم الدولة لأنهم يرثون عليها، وأما عامة الناس فانهم يكفي عليهم معرفة الأحكام التي يواجهون في حياتهم، ولكن المرء لا يتبع الأحكام الشرعية إلا فرديا عند فقد الخلافة حسب ما يطيق عليها. ففي هذا الحال الأولى أن يجعلهم يعيشون في ظل الخلافة من أن يجعلهم واعيين عليها. لا يعتبر توعيتهم منهجا لإقامة الخلافة بل العكس لأن توعيتهم بأحكام الشرعية مستحيل بدون الخلافة. ولهذا نقول لا يعتبر توعيتهم منهجا لإقامة الخلافة لأن الرسول لم يقم هذا الأعمال لإقامة الدولة. الله اعلم.

  1. 3.التزكية

مدى التزكية المحتاج إلى إقامة الخلافة

المراد بالتزكية هنا يعني اعتناق الإسلام لقوله سبحانه تعالى: ” يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ” أي تلاوة الآيات من اجل تزكيتهم. وقد ينشأ السؤال كم المقدار التزكية اللازمة لإقامة الدولة؟ هل يجب أن يكون كل الناس من الأمة مسلما لإقامة الخلافة أو يكون كل من الناس في المجال مسلما  أو يكون كل من الناس في المكان الذي تقام عليه الخلافة مسلما؟ ما هي المقدار اللازم لإقامة الخلافة؟ نحصل على الجواب هذا من سيرة نبينا عليه الصلاة والسلام. انه لايجب ان يكون كل من الأمة مسلما لإقامة الخلافة لأن النبي لم يقم الدولة والناس كلهم على الإسلام. وكذلك أنه لا يجب أن يكون كل الناس في المجال لكي يقام الخلافة حتى في المكان الذي يقام عليها الخلافة. ذلك بأن الرسول لم يزكي كل الناس في الجزيرة العرب أو في المدينة قبل إقامة الدولة عليهم. بل انه قام بتزكية أهل النخب وغيرهم في المدينة حتى غيّرعرف العام في المجتمع حسب الاسلام كما ورد في الحديث الذي أخرجه البخاري:

“حَدَّثَنَا أَبُو اليَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، أَنَّ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَخْبَرَهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكِبَ عَلَى حِمَارٍ عَلَى قَطِيفَةٍ فَدَكِيَّةٍ، وَأَرْدَفَ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ وَرَاءَهُ يَعُودُ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ فِي بَنِي الحَارِثِ بْنِ الخَزْرَجِ قَبْلَ وَقْعَةِ بَدْرٍ، قَالَ: حَتَّى مَرَّ بِمَجْلِسٍ فِيهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ، فَإِذَا فِي المَجْلِسِ أَخْلاَطٌ مِنَ المُسْلِمِينَ وَالمُشْرِكِينَ عَبَدَةِ الأَوْثَانِ وَاليَهُودِ وَالمُسْلِمِينَ، وَفِي المَجْلِسِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ فَلَمَّا غَشِيَتِ المَجْلِسَ عَجَاجَةُ الدَّابَّةِ، خَمَّرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ أَنْفَهُ بِرِدَائِهِ، ثُمَّ قَالَ: لاَ تُغَبِّرُوا عَلَيْنَا، فَسَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ وَقَفَ فَنَزَلَ فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ، وَقَرَأَ عَلَيْهِمُ القُرْآنَ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ: أَيُّهَا المَرْءُ إِنَّهُ لاَ أَحْسَنَ مِمَّا تَقُولُ، إِنْ كَانَ حَقًّا فَلاَ تُؤْذِنَا بِهِ فِي مَجْلِسِنَا، ارْجِعْ إِلَى رَحْلِكَ فَمَنْ جَاءَكَ فَاقْصُصْ عَلَيْهِ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ فَاغْشَنَا بِهِ فِي مَجَالِسِنَا، فَإِنَّا نُحِبُّ [ص:40] ذَلِكَ، فَاسْتَبَّ المُسْلِمُونَ وَالمُشْرِكُونَ وَاليَهُودُ، حَتَّى كَادُوا يَتَثَاوَرُونَ، فَلَمْ يَزَلِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخَفِّضُهُمْ حَتَّى سَكَنُوا، ثُمَّ رَكِبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَابَّتَهُ فَسَارَ حَتَّى دَخَلَ عَلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “ يَا سَعْدُ أَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالَ أَبُو حُبَابٍ؟ – يُرِيدُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ – قَالَ: كَذَا وَكَذَا “، قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اعْفُ عَنْهُ وَاصْفَحْ عَنْهُ، فَوَالَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ لَقَدْ جَاءَ اللَّهُ بِالحَقِّ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ، لَقَدِ اصْطَلَحَ أَهْلُ هَذِهِ البُحَيْرَةِ عَلَى أَنْ يُتَوِّجُوهُ فَيُعَصِّبُوهُ بِالعِصَابَةِ، فَلَمَّا أَبَى اللَّهُ ذَلِكَ بِالحَقِّ الَّذِي أَعْطَاكَ اللَّهُ شَرِقَ بِذَلِكَ، فَذَلِكَ فَعَلَ بِهِ مَا رَأَيْتَ، فَعَفَا عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ يَعْفُونَ عَنِ المُشْرِكِينَ، وَأَهْلِ الكِتَابِ، كَمَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ، وَيَصْبِرُونَ عَلَى الأَذَى، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا} [آل عمران: 186] الآيَةَ، وَقَالَ اللَّهُ: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} [البقرة: 109] إِلَى آخِرِ الآيَةِ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَأَوَّلُ العَفْوَ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ، حَتَّى أَذِنَ اللَّهُ فِيهِمْ، فَلَمَّا غَزَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَدْرًا، فَقَتَلَ اللَّهُ بِهِ صَنَادِيدَ كُفَّارِ قُرَيْشٍ، قَالَ ابْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ المُشْرِكِينَ وَعَبَدَةِ الأَوْثَانِ: هَذَا أَمْرٌ قَدْ تَوَجَّهَ، فَبَايَعُوا الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الإِسْلاَمِ فَأَسْلَمُوا” (انتهى)

وقول سعد بن عبادة في هذا الحديث  يدل  على أن عبد الله بن أبي كان من المفترض أن يكون زعيمًا للمدينة إذا لم يكن النبي قد هاجر إلى المدينة. وكان عرف العام في المدينة صالحا للإسلام ما يضطر عبد الله بن أبي يخفي عداوته إلى الإسلام وحرصه على السلطة. فلما أظهر الله دينه الإسلام في غزوة بدر، أسلم ابن أبي ظاهرا ويخفي كفره في قلبه. ولم يكن قادرا على التمرد على النبي عليه الصلاة والسلام عندما هاجر النبي إليهم. وإنما كان يطلب من النبي أن لا يدعوه إلى الإسلام فقال:” أَيُّهَا المَرْءُ إِنَّهُ لاَ أَحْسَنَ مِمَّا تَقُولُ، إِنْ كَانَ حَقًّا فَلاَ تُؤْذِنَا بِهِ فِي مَجْلِسِنَا،ارْجِعْ إِلَى رَحْلِكَ فَمَنْ جَاءَكَ فَاقْصُصْ عَلَيْهِ “. وكذلك نفهم من هذا الحديث أن المجتمع في المدينة كان مختلط من المسلمين والمشركين واليهود عند إقامة الدولة وكان الرسول يدعوهم إلى الإسلام حتى غزوة بدر فأسلموا عندما رأوا الإسلام يظهر على الكفر. ولذلك نقول أنه لا يجب إسلام كل الامة  ولا الناس في المجال حتى في المكان التي ستقام عليه الخلافة لاقامة الخلافة. وإنما يكفي تحول عرف العام في المكان التي ستقام الخلافة ومن ثم لا يستطيع المعارضون التمرد على الخلافة.

فنقول انه واجب تحول عرف العام في المكان الذي تقام الخلافة عليه لأن الرسول لم يقم الدولة إلا بعد حوّل عرف العام في المدينة وكذلك لم يأخذ منهم النصرة الا بعد أرسل إليهم مصعب بن عمير ليفعل هذا. هذا قرينة جازمة ليدل أنه واجب تحول عرف العام في المكان الذي تقام الخلافة عليه

إذا نظرنا بلاد المسلمين, وجدنا معظم الناس فيها مسلمين فإنما يكفي تحول عرف العام فيهم صالحا للإسلام أي في المكان التي تقام الخلافة بدلا من تحول عرف العام لكل الامة ولكل بلاد المسلمين.ونقيس ذلك بتأكيد على قمع المعارضة ضد اقامة الخلافة في المكان التي تقام الخلافة. هذا هو المقدار التزكية اللازمة لإقامة الخلافة. الله اعلم.

هذا المقدار قد يوجد في بعض مكان المجال إلا  أن النظام فيهم غير الإسلام. هذه الحقيقة لم يوجد في زمن الرسول عليه الصلاة والسلام في المدينة ذلك بأن الرسول أقام الدولة حالما يوجد عرف العام صالحا للإسلام في المدينة. ولكن الأن طال الوقت طويلا ويبقى الناس في الإسلام ولم يكن لديهم دولة منذ غياب الدولة العثمانية. وقد غزا الغرب ثقافية في بلاد الأسلام حتى اصبح عرف العام فيها غير صالحا للاسلام. فاذا كان الحال كذلك فالأول أن يحول عرف عامهم صالحا للإسلام.

وبالإضافة إلى تحول عرف العام صالحًا للإسلام في المكان الذي تقام عليه الخلافة، فإنه ملزم ان تكون الدعوة والحركة الإسلامية إلى إقامة الخلافة فيه بين الناس. ذلك بأن المقصود هنا اقامة الخلافة، فإذا لم تكن الدعوة الى اقامة الخلافة في المكان الذي تقام فيها الخلافة، فيكون هذا المكان سواء مع غير بلاد المسلمين التي معظم الناس فيها مسلمون. ومن المحتم ان تكون حركة في هذا المكان الى اقامتها كما كانت في المدينة الى قدوم النبي إليهم أميرا كما قال سعد بن عبادة: “…فَوَالَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ لَقَدْ جَاءَ اللَّهُ بِالحَقِّ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ، لَقَدِ اصْطَلَحَ أَهْلُ هَذِهِ البُحَيْرَةِ عَلَى أَنْ يُتَوِّجُوهُ فَيُعَصِّبُوهُ بِالعِصَابَةِ، فَلَمَّا أَبَى اللَّهُ ذَلِكَ بِالحَقِّ الَّذِي أَعْطَاكَ اللَّهُ شَرِقَ بِذَلِكَ…” أي أجمع أهل المدينة على جعله أميرا في المدينة .  هذا يدل على لزوم وجود الدعوة إلى إقامة الخلافة لأن إجماعهم على جعله أميرا لم يكن إلا بالدعوة او الحركة إلى إقامة الدولة.  الله اغلم

كيف يحول عرف العام في المجتمع؟

عندما نتفحص واقع المجتمعات البشرية نجد أن عرف عام المجتمعات متعلق بـأَمْلاء المجتمعات.  الملأ هم الذين يمثلون عامة الناس ولذلك إذا قبل الملأ الإسلام وأفكاره يكن عرف العام في المجتمع صالحا للإسلام وبالتالي لن يكون هناك عائق لعامة الناس لقبول الإسلام وهكذا يصبح المجتمع مائعًا للإسلام. اما اذا لم يقبل ملأ القوم الإسلام فلا يكن عرف العام في المجتمع صالحا للإسلام وبالتالي يكون هذا الملا عائقا لعامة قومهم لقبولهم الإسلام فيكون المجتمع جامدا. انه مصعب للملأ أن يقبلوا الإسلام لأنهم مترفون بوضعية الراهنة كقول سبحانه تعالى:

“وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً (١٦)” ولهذا كفر ملأ كل القوم رسلهم حتى أتاهم أمر ربهم فنجدها في الكثير من الآيات :

{ قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } [الأعراف: 60]

{قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ } [الأعراف: 66]

{ قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (76)} [الأعراف: 75، 76]

{قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ } [الأعراف: 88]

 وكذلك كان المجتمع في المكة جامدا لان الملا فيهم لم يقبل الإسلام فمنعوا عامة الناس من قبول الإسلام. وكذلك كان المجتمع في المدينة مائعا لأن الملأ فيهم اعتنق الإسلام  فأسرعوا عامة الناس قبول الإسلام. ولذلك نقول انه يمكن تحول عرفا العام صالحا للإسلام إذ يقبل ملأ القوم الاسلام. وكذلك يمكن جعل الحركة بين الناس في المجتمع من خلال تحريك ملأ هذا المجتمع إلى إقامة الخلافة كما فعل مصعب بن عمير بين ملأ الأوس والخزرج على أمر نبينا الكريم.

لا يقال هنا أنه لا يهتم بتركيز على ملأ القوم دون عامة الناس ليحول عرف العام صالحًا للإسلام لأن الله عاتب الرسول من أجل اعراض النبي عن أمِّ مكتوم رضي الله وكان من المستضعفين فأنزل الله سورة عبس عتابا لنبي عليه الصلاة والسلام.

{عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12)} [عبس: 1 – 12]

لا يقال ذلك لأن الآيات في هذه السورة لم ينهى الرسول على عدم التركيز على ملأ القوم بل إنما أخبر الله تعالى في هذه السورة أن الله يهدي من يشاء إلى الإسلام لقوله سبحانه تعالى:

 كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12). وقوله “كلاَّ” لا يعني “لا تفعل” بل انما هو التأكيد على ان الله يهدي من يشاء الى الإسلام.  وقد أكد هذا المعنى بقوله سبحانه تعالى من قبل:

 وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4). اي انك لا تدري من اهتدى بالاسلام. وقد وردت آية أخرى في سورة البقرة مثل هذا المعنى فقال سبحانه تعالى:

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6)} [البقرة: 6] هذه الآية نزلت على من ختم الله قلوبهم أن يؤمنوا به. وقوله “الذين” من صيغ العموم لغويا بل قد خصّص هذا العموم لقوله سبحانه تعالى:

“وَمَاۤ اَرْسَلْنٰكَ اِلَّا كَآفَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيْرًا وَّنَذِيْرًا”( سورة سبإ: ٢٨).فهذا الأمر ليس على عموم الكفار لانه مرسل إلى الناس كافة بعموم بل على من ختم الله قلوبهم. ففي هذه الآية لم يقل سبحانه تعالى: “لا تنذرهم” بل أخبر النبي أنه سواء في إنذارهم أو غير إنذارهم لأنهم لا يؤمنون. ففي هذا السياق، أخبر الله نبيه في سورة عبس أن الله هو الذي يزكّي من يشاء ولو طمعت على إيمان من استغنى. ولهذا نقول ليس في هذه الآية نهي عن التركيز على الملأ دون عامة الناس. وكذلك هذا التركيز على ملأ القوم إنما هو من أجل تبليغ هذه الدعوة الى عامة الناس لأن الملا هم الذين يقوم بين عامة الناس وبين هذه الدعوة. فإذا يقبل هذا الملأ يكون المجتمع مائعا وان لا فيكون جامدا. هذا ما حدث في أهل مكة وكذلك في أهل المدينة. وعلاوة على ذلك، فإن الرسول ركّز على أشراف القوم لكي يؤمنوا عامة الناس ولذلك دعا أشراف قريش الى الإسلام فأبوا ثم دعا أشراف القوم في الطائف الى الإسلام فأبوا ثم  دعا قبائل العرب إلى الإسلام حتى أسلم نخبة الأوس والخزرج فنصرواه إلى إقامة الدولة فيهم. هذا كله يدل على أن الرسول ركّز دعوته على ملأ القوم لكي يؤمنوا كل الناس فيهم.

ولهذا نقول إنه يمكن  تحول عرف العام صالحًا للإسلام و جعل الحركة بين الناس في المجتمع على إقامة الخلافة من خلال تحريك ملأ هذا المجتمع إلى إقامة الخلافة. وهذا هو سنة الأنبياء في تغيير المجتمع حسب الإسلام. الله اعلم.

من الملأ؟

الملأ هم أشراف القوم ورؤساؤهم ومقدموهم.  وكذلك الملأ هم الذين يمثلون الناس في المجتمع.  ولذلك إذا لم يقبل ملأ القوم الإسلام فلا يوجد رأي العام في المجتمع صالحًا للإسلام. الملأ هم الذين ترجع إليهم السلطة لرعاية شؤون الناس في المجتمع. ولذلك إذا لم يقبل هذا الملأ الإسلام تُوجد في المجتمع مقاومة والقمع للناس لقبول الإسلام. فنجد هذه  المقاومة والقمع في أكثر القوم مثل في أهل مكة و آل فرعون وغيرهما.

من الملأ في حاضر اليوم؟

مع ظهور الحداثة وتلاشي المجتمعات القبلية، فغيرت المنظمات في المجتمعات. فان الناس الآن لا يعيشون أقواما ولا قبائلا من حيث ملأهم يمثلونهم ويملكون السلطة.

فإذا فصحنا حقيقة المجتمع في حاضر اليوم، نجد أن الملأ ينقسم إلى فريقين. فريق يمثل الناس وفريق آخر الذي يملك السلطة. الآن الناس يعيشون كمدنيين خاصة في أنظمة دموكرتية من حيث ينتخبون رؤسائهم لرعاية شؤونهم فيُعرف هؤلاء الرؤساء باسم القادة المدنية. أولئك الذين يمثلون الناس في المجتمع لأن الناس ينتخبونهم. وكذلك هناك غيرهم في المجتمع ممن يمثلون الناس ويشكلون أفكار المجتمع من الرغم أنهم لا يشاركون في الإنتخابات. هذا هو الفريق الأول الذي يمثل الناس ويؤثر أفكارهم ومشاعرهم. أما الفريق الثاني فهم يملكون السلطة ولا يمثلون الناس فيُعرهم باسم القادة الجيوش. فهم بالأصل لا يؤثرون على الناس لأنهم لا يخوضون برعاية شؤون الناس بشكل عام. هذا هو حقيقة الملأ في حاضر اليوم.

ففي هذا السياق, نقول إنه يتم  تحول عرف العام صالحًا للإسلام و جعل الحركة بين الناس في المجتمع على إقامة الخلافة من خلال تحريك الرؤساء  الذين يمثلون الناس  ويؤثرون عليهم.

والرسول عليه الصلاة والسلام غيّر المجتمع المدينة الى مجتمعا اسلاميا بتغير عرف عامهم صالحا للإسلام وبتغير نظامهم نظاما إسلاميا من خلال تطبيق الأحكام الشرعية فيهم.

  1. 4.التعليم الكتاب والسنة

بعد أن يجعل القوم مسلمين أي يتم تزكية القوم, يجب تعليمهم بالكتاب والسنة. المراد بتعليم القوم بالكتاب والسنة هو جعلهم يعيشون في ظل الخلافة التي تطبق الأحكام الشرعية كافة فيتم تعليم الناس فيهم الكتاب والسنة حقيقة لأن الأصل في تعليم الأحكام الشرعية هو من أجل تطبيقها في الحياة. اما تعليم الأحكام مجردا دون الإهتمام الى تطبيقها فلا يعتبر فعلا تعليم الكتاب والسنة.  ولهذا نقول إنه لا يتم تعليم الناس بالكتاب والسنة حقيقة إلا بإقامة الخلافة. فانه يجب ان يقيم الخلافة لتطبيق أحكام الشريعة بعد جعلهم مسلمين.

كيف تقام الخلافة:

الخلافة هي مؤسسة تطبق الإسلام كافة بين الناس. وإقامة الخلافة تحتاج إلى السلطة. وبما أن السلطة تنتمي إلى الملأ فتطلب هذة السلطة منهم ويسلمها الى الأمة لأنه واجب في الشريعة أن تكون هذه السلطة للأمة. فطلب نبينا الكريم هذه السلطة من ملأ القوم لأنهم يملكون هذه السلطة. فيتبين هذا الأمر بصريح في عدة من الرواية وسيرة النبي. ففي رواية طويلة عَنْ عِكْرِمَة عَن بن عَبَّاسٍ  : “قَالَ حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ قَالَ لَمَّا أُمِرَ اللَّه رَسُوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَعْرِضَ نَفْسَهُ عَلَى قَبَائِلِ الْعَرَبِ خَرَجَ وَأَنَا مَعَهُ وَأَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ حَتَّى دَفَعْنَا إِلَى مَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِ الْعَرَبِ ……فَتَقَدَّمَ أَبُو بَكْرٍ وَكَانَ مُقَدَّمًا فِي كُلِّ خَيْرٍ فَسَلَّمَ وَقَالَ مِمَّنِ الْقَوْمُ فَقَالُوا مِنْ شَيْبَانَ بْنِ ثَعْلَبَةَ فَالْتَفَتَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا وَرَاءَ هَذَا الْقَوْمِ غِرٌّ هَؤُلاءِ غُرَرٌ قَوْمُهُمْ وَفِيهِمْ مَفْرُوقُ بْنُ عَمْرٍو وهانئ بن قبيصَة والمثننى بْنُ حَارِثَةَ وَالنُّعْمَانُ بْنُ شَرِيكٍ وَكَانَ مَفْرُوقُ بْنُ عَمْرٍو قَدْ غلبهم جمالا وَلِسَانًا وَكَانَ غديرتان تسقطان على تَرْبِيَته وَكَانَ أَدْنَى الْقَوْمِ مَجْلِسًا مِنْ أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ كَيْفَ الْعَدَدُ فِيكُمْ فَقَالَ مَفْرُوقٌ إِنَّا لَنَزِيدُ عَلَى أَلْفٍ وَلَنْ يُغْلَبَ أَلْفٌ مِنْ قِلَّةٍ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ وَكَيْفَ الْمَنَعَةُ فِيكُمْ قَالَ مفروق عَلَيْنَا الْجَهْدُ وَلِكُلِّ قَوْمٍ جِدٌّ قَالَ أَبُو بَكْرٍ كَيْفَ الْحَرْبُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ عَدُوِّكُمْ قَالَ مَفْرُوقٌ إِنَّا لأَشَدُّ مَا نَكُونُ غَضَبًا حِينَ نَلْقَى وَإِنَّا لأَشَدُّ مَا نكونن لِقَاءً حِينَ نَغْضَبُ وَإِنَّا لَنُؤْثِرُ الْجِيَادَ عَلَى الأَوْلادِ وَالسِّلاحَ عَلَى اللِّقَاحِ وَالنَّصْرُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يُدِيلُنَا مَرَّةً وَيُدِيلُ عَلَيْنَا أُخْرَى لَعَلَّكَ أَخُو قُرَيْشٍ قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَقَدْ بَلَغَكُمْ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهَا هُوَ ذَا قَالَ مَفْرُوقٌ قَدْ بَلَغَنَا أَنَّهُ يَذْكُرُ ذَلِكَ قَالَ فالى مأ تَدْعُو يَا أَخَا قُرَيْشٍ قَالَ: “أَدْعُوكُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ وَأَنْ تُؤْوُنِي وَتَنْصُرُونِي فَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ تَظَاهَرَتْ عَلَى أَمْرِ اللَّهِ فَكَذَّبَتْ رُسُلَهُ وَاسْتَغْنَتْ بِالْبَاطِلِ عَنِ الْحَقِّ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ” فَقَالَ مفروق بن عَمْرو إِلَى مَا تدعونا ياأَخَا قُرَيْشٍ فَتَلا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُم… الْآيَة” قَالَ مفروق وَإِلَى ما تَدْعُو يَا أَخَا قُرَيْشٍ فَتَلا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : “إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَان الآيَةَ …” فَقَالَ مَفْرُوقٌ دَعَوْتَ وَاللَّهِ يَا أَخَا قُرَيْشٍ إِلَى مَكَارِمِ الأَخْلاقِ وَمَحَاسِنِ الأَعْمَالِ وَكَأَنَّهُ أَحَبَّ أَنْ يُشْرِكَهُ فِي الْكَلامِ هَانِئَ بْنَ قَبِيصَةَ فَقَالَ وَهَذَا هَانِئُ بْنُ قَبِيصَةَ شَيْخُنَا وَصَاحِبُ دِينِنَا فَقَالَ قَدْ سَمِعْتُ مَقَالَتَكَ يَا أَخَا قُرَيْشٍ وَإِنِّي أَرَى إِنْ تَرَكْنَا دِينَنَا وَاتَّبَعْنَاكَ عَلَى دِينِكَ لِمَجْلِسٍ جَلَسْتَهُ إِلَيْنَا زَلَّةً فِي الرَّأْيِ وَقِلَّةَ فِكْرٍ فِي الْعَوَاقِبِ وَإِنَّمَا تكون الزلة مَعَ الْعَجَلَةِ وَمِنْ وَرَائِنَا قَوْمٌ نَكْرَهُ أَنْ نَعْقِدَ عَلَيْهِمْ عَقْدًا وَلَكِنْ تَرْجِعُ وَنَرْجِعُ وَتَنْظُرُ وَنَنْظُرُ وَكَأَنَّهُ أَحَبَّ أَنْ يُشْرِكَهُ فِي الْكَلامِ الْمُثَنَّى بْنَ حَارِثَةَ فَقَالَ وَهَذَا الْمُثَنَّى بْنُ حَارِثَةَ شَيْخُنَا وَصَاحِبُ حَرْبِنَا فَقَالَ الْمُثَنَّى قَدْ سَمِعْتُ مَقَالَتَكَ يَا أَخَا قُرَيْشٍ وَالْجَوَابُ هُوَ جَوَابُ هَانِئِ بْنِ قَبِيصَةَ فِي تَرْكِنَا دِينَنَا وَاتِّبَاعِنَا إِيَّاكَ على دينك وَإِنَّمَا أنزلنَا بَيْنَ ضُرَّتَيْنِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا هَاتَانِ الضرتانن قَالَ أهار كِسْرَى وَمِيَاهُ الْعَرَبِ وَإِنَّمَا نَزَلْنَا على عهد أَخذ عَلَيْنَا كِسْرَى لَا نُحْدِثُ حَدَثًا وَلَا ننؤوى مُحدثا وانى أرى هَذَا الأَمْرَ الَّذِي تَدْعُو إِلَيْهِ مِمَّا تَكْرَهُهُ الْمُلُوكُ فَإِنْ أَحْبَبْتَ أَنْ نؤويك وَنَنْصُرَكَ مِمَّا يَلِي مِيَاهَ الْعَرَبِ فَعَلْنَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ “مَا أَسَأْتُمْ فِي الرَّدِّ إِذْ أَفْصَحْتُمْ بِالصِّدْقِ وَإِنَّ دِينَ اللَّهِ لَنْ يَنْصُرَهُ إِلا مَنْ أَحَاطَهُ اللَّهُ مِنْ جَمِيعِ جَوَانِبِهِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ لَمْ تَلْبَثُوا إِلا قَلِيلا حَتَّى يُوَرِّثَكُمُ اللَّهُ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَيُفْرِشَكُمْ نِسَاءَهُمْ أَتُسَبِّحُونَ اللَّهَ وَتُقَدِّسُونَهُ” فَقَالَ النُّعْمَانُ بْنُ شَرِيكٍ اللَّهُمَّ نَعَمْ قَالَ فَتَلا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ “إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى الله بِإِذْنِهِ وسراجا منيرا” ثُمَّ نَهَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَابِضًا عَلَى يَدِ أَبِي بَكْرٍ وَهُوَ يَقُولُ “يَا أَبَا بَكْرٍ أَيَّةُ أَخْلاقٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَا أَشْرَفَهَا بِهَا يَدْفَعُ اللَّهُ بَأْسَ بَعْضِهِمْ عَنْ بعض” (ابن حبان 1/89)

حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: فَحَدَّثَنِي مَعْبَدُ بْنُ كَعْبِ بْنِ مَالِكِ بْنِ أَبِي كَعْبِ بْنِ الْقَيْنِ، أَخُو بَنِي سَلِمَةَ، أَنَّ أَخَاهُ عُبَيْدَ اللهِ بْنَ كَعْبٍ، وَكَانَ مِنْ أَعْلَمِ الْأَنْصَارِ، حَدَّثَهُ أَنَّ أَبَاهُ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ، وَكَانَ كَعْبٌ مِمَّنْ شَهِدَ الْعَقَبَةَ، وَبَايَعَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَا، قَالَ: خَرَجْنَا فِي حُجَّاجِ قَوْمِنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَقَدْ صَلَّيْنَا وَفَقِهْنَا وَمَعَنَا الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ كَبِيرُنَا وَسَيِّدُنَا، فَلَمَّا تَوَجَّهْنَا لِسَفَرِنَا وَخَرَجْنَا مِنَ الْمَدِينَةِ، قَالَ الْبَرَاءُ لَنَا: يَا هَؤُلَاءِ، إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ وَاللهِ رَأْيًا، وَإِنِّي وَاللهِ مَا أَدْرِي تُوَافِقُونِي عَلَيْهِ أَمْ لَا، قَالَ: قُلْنَا لَهُ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: قَدْ رَأَيْتُ أَنْ لَا أَدَعَ هَذِهِ الْبَنِيَّةِ مِنِّي بِظَهْرٍ، يَعْنِي الْكَعْبَةَ، وَأَنْ أُصَلِّيَ إِلَيْهَا، قَالَ: فَقُلْنَا: وَاللهِ مَا بَلَغَنَا أَنَّ نَبِيَّنَا يُصَلِّي إِلَّا إِلَى الشَّامِ، وَمَا نُرِيدُ أَنْ نُخَالِفَهُ، فَقَالَ: إِنِّي أُصَلِّي إِلَيْهَا  ، قَالَ: فَقُلْنَا لَهُ: لَكِنَّا لَا نَفْعَلُ، فَكُنَّا  إِذَا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ صَلَّيْنَا إِلَى الشَّامِ وَصَلَّى إِلَى الْكَعْبَةِ، حَتَّى قَدِمْنَا مَكَّةَ، قَالَ أَخِي  : وَقَدْ كُنَّا عِبْنَا عَلَيْهِ مَا صَنَعَ، وَأَبَى إِلَّا الْإِقَامَةَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا قَدِمْنَا مَكَّةَ قَالَ: يَا ابْنَ أَخِي انْطَلِقْ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاسْأَلْهُ عَمَّا صَنَعْتُ فِي سَفَرِي هَذَا، فَإِنَّهُ وَاللهِ قَدْ وَقَعَ فِي نَفْسِي مِنْهُ شَيْءٌ لَمَّا رَأَيْتُ مِنْ خِلَافِكُمْ إِيَّايَ فِيهِ، قَالَ: فَخَرَجْنَا نَسْأَلُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكُنَّا لَا نَعْرِفُهُ لَمْ نَرَهُ قَبْلَ ذَلِكَ، فَلَقِيَنَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، فَسَأَلْنَاهُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: هَلْ تَعْرِفَانِهِ؟ قَالَ: قُلْنَا: لَا، قَالَ: فَهَلْ تَعْرِفَانِ الْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَمَّهُ؟ قُلْنَا: نَعَمْ، قَالَ: وَكُنَّا  نَعْرِفُ الْعَبَّاسَ، كَانَ لَا يَزَالُ يَقْدَمُ عَلَيْنَا تَاجِرًا، قَالَ: فَإِذَا دَخَلْتُمَا الْمَسْجِدَ فَهُوَ الرَّجُلُ الْجَالِسُ مَعَ الْعَبَّاسِ، قَالَ: فَدَخَلْنَا الْمَسْجِدَ فَإِذَا الْعَبَّاسُ جَالِسٌ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهُ جَالِسٌ فَسَلَّمْنَا، ثُمَّ جَلَسْنَا إِلَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْعَبَّاسِ: ” هَلتَعْرِفُ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ يَا أَبَا الْفَضْلِ؟ ” قَالَ: نَعَمْ هَذَا الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ سَيِّدُ قَوْمِهِ، وَهَذَا كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ، قَالَ: فَوَاللهِ مَا أَنْسَى قَوْلَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” الشَّاعِرُ؟ ” قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَقَالَ الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ: يَا نَبِيَّ اللهِ إِنِّي خَرَجْتُ فِي سَفَرِي هَذَا، وَهَدَانِي اللهُ لِلْإِسْلَامِ، فَرَأَيْتُ أَنْ لَا أَجْعَلَ هَذِهِ الْبَنِيَّةَ مِنِّي بِظَهْرٍ، فَصَلَّيْتُ إِلَيْهَا، وَقَدْ خَالَفَنِي أَصْحَابِي فِي ذَلِكَ، حَتَّى وَقَعَ فِي نَفْسِي مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، فَمَاذَا تَرَى يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: ” لَقَدْ كُنْتَ عَلَى قِبْلَةٍ لَوْ صَبَرْتَ عَلَيْهَا ” قَالَ: فَرَجَعَ الْبَرَاءُ إِلَى قِبْلَةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلَّى مَعَنَا إِلَى الشَّامِ، قَالَ: وَأَهْلُهُ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ صَلَّى إِلَى الْكَعْبَةِ حَتَّى مَاتَ، وَلَيْسَ ذَلِكَ كَمَا قَالُوا، نَحْنُ أَعْلَمُ بِهِ مِنْهُمْ، قَالَ: وَخَرَجْنَا إِلَى الْحَجِّ، فَوَاعَدْنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَقَبَةَ مِنْ أَوْسَطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، فَلَمَّا فَرَغْنَا مِنَ الْحَجِّ، وَكَانَتِ اللَّيْلَةُ الَّتِي وَعَدْنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَعَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ أَبُو جَابِرٍ سَيِّدٌ مِنْ سَادَتِنَا  ، وَكُنَّا نَكْتُمُ مَنْ مَعَنَا مِنْ قَوْمِنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَمْرَنَا فَكَلَّمْنَاهُ، وَقُلْنَا لَهُ: يَا أَبَا جَابِرٍ، إِنَّكَ سَيِّدٌ مِنْ سَادَتِنَا  ، وَشَرِيفٌ مِنْ أَشْرَافِنَا، وَإِنَّا نَرْغَبُ بِكَ عَمَّا أَنْتَ فِيهِ أَنْ تَكُونَ حَطَبًا لِلنَّارِ غَدًا، ثُمَّ دَعَوْتُهُ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَأَخْبَرْتُهُ بِمِيعَادِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَسْلَمَ وَشَهِدَ مَعَنَا الْعَقَبَةَ، وَكَانَ نَقِيبًا، قَالَ: فَنِمْنَا تِلْكَ اللَّيْلَةَ مَعَ قَوْمِنَا فِي رِحَالِنَا حَتَّى إِذَا مَضَى ثُلُثُ اللَّيْلِ خَرَجْنَا مِنْ رِحَالِنَا لِمِيعَادِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، نَتَسَلَّلُ مُسْتَخْفِينَ تَسَلُّلَ الْقَطَا حَتَّى اجْتَمَعْنَا فِي الشِّعْبِ عِنْدَ الْعَقَبَةِ، وَنَحْنُ سَبْعُونَ رَجُلًا، وَمَعَنَا امْرَأَتَانِ مِنْ نِسَائِهِمْ نَسِيبَةُ بِنْتُ كَعْبٍ أُمُّ عُمَارَةَ إِحْدَى نِسَاءِ بَنِي مَازِنِ بْنِ النَّجَّارِ، وَأَسْمَاءُ بِنْتُ عَمْرِو بْنِ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ إِحْدَى نِسَاءِ بَنِي سَلِمَةَ، وَهِيَ أُمُّ مَنِيعٍ، قَالَ: فَاجْتَمَعْنَا بِالشِّعْبِ نَنْتَظِرُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى جَاءَنَا وَمَعَهُ يَوْمَئِذٍ عَمُّهُ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ عَلَى دِينِ قَوْمِهِ، إِلَّا أَنَّهُ أَحَبَّ أَنْ يَحْضُرَ أَمْرَ ابْنِ أَخِيهِ، وَيَتَوَثَّقُ لَهُ، فَلَمَّا جَلَسْنَا كَانَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَوَّلَ مُتَكَلِّمٍ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ  الْخَزْرَجِ، قَالَ: وَكَانَتِ الْعَرَبُ مِمَّا يُسَمُّونَ هَذَا الْحَيَّ مِنَ الْأَنْصَارِ الْخَزْرَجَ أَوْسَهَا وَخَزْرَجَهَا، إِنَّ مُحَمَّدًا مِنَّا حَيْثُ قَدْ عَلِمْتُمْ، وَقَدْ مَنَعْنَاهُ مِنْ قَوْمِنَا مِمَّنْ هُوَ عَلَى مِثْلِ رَأْيِنَا فِيهِ، وَهُوَ فِي عِزٍّ مِنْ قَوْمِهِ، وَمَنَعَةٍ فِي بَلَدِهِ، قَالَ: فَقُلْنَا: قَدْ سَمِعْنَا مَا قُلْتَ، فَتَكَلَّمْ يَا رَسُولَ اللهِ، فَخُذْ لِنَفْسِكَ، وَلِرَبِّكَ مَا أَحْبَبْتَ، قَالَ: فَتَكَلَّمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَتَلَا وَدَعَا إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَرَغَّبَ فِي الْإِسْلَامِ، قَالَ: ” أُبَايِعُكُمْ عَلَى أَنْ تَمْنَعُونِي مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ نِسَاءَكُمْ، وَأَبْنَاءَكُمْ ” قَالَ: فَأَخَذَ الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ بِيَدِهِ ثُمَّ قَالَ: نَعَمْ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَنَمْنَعَنَّكَ مِمَّا نَمْنَعُ مِنْهُ أُزُرَنَا، فَبَايِعْنَا يَا رَسُولَ اللهِ، فَنَحْنُ أَهْلُ الْحُرُوبِ، وَأَهْلُ الْحَلْقَةِ، وَرِثْنَاهَا كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ، قَالَ: فَاعْتَرَضَ الْقَوْلَ  ، وَالْبَرَاءُ يُكَلِّمُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبُو الْهَيْثَمِ بْنُ التَّيِّهَانِ حَلِيفُ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الرِّجَالِ حِبَالًا، وَإِنَّا قَاطِعُوهَا – يَعْنِي الْعُهُودَ – فَهَلْ عَسَيْتَ إِنْ نَحْنُ فَعَلْنَا ذَلِكَ، ثُمَّ أَظْهَرَكَ اللهُ أَنْ تَرْجِعَ إِلَى قَوْمِكَ، وَتَدَعَنَا؟ قَالَ: فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ: ” بَلِ الدَّمَ الدَّمَ، وَالْهَدْمَ الْهَدْمَ أَنَا مِنْكُمْ، وَأَنْتُمْ مِنِّي أُحَارِبُ مَنْ حَارَبْتُمْ، وَأُسَالِمُ مَنْ سَالَمْتُمْ “، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” أَخْرِجُوا إِلَيَّ مِنْكُمْ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا يَكُونُونَ عَلَى قَوْمِهِمْ “، فَأَخْرَجُوا مِنْهُمْ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا مِنْهُمْ تِسْعَةٌ مِنَ الْخَزْرَجِ، وَثَلَاثَةٌ مِنَ الْأَوْسِ – وَأَمَّا مَعْبَدُ بْنُ كَعْبٍ فَحَدَّثَنِي فِي حَدِيثِهِ  ، عَنْ أَخِيهِ، عَنْ أَبِيهِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ – قَالَ: كَانَ أَوَّلَ مَنْ ضَرَبَ عَلَى يَدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ، ثُمَّ تَتَابَعَ الْقَوْمُ، فَلَمَّا بَايَعَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَرَخَ  الشَّيْطَانُ مِنْ رَأْسِ الْعَقَبَةِ بِأَبْعَدِ صَوْتٍ سَمِعْتُهُ قَطُّ: يَا أَهْلَ الْجُبَاجِبِ – وَالْجُبَاجِبُ: الْمَنَازِلُ – هَلْ لَكُمْ فِي مُذَمَّمٍ وَالصُّبَاةُ مَعَهُ؟ قَدْ أَجْمَعُوا عَلَى حَرْبِكُمْ ـ قَالَ عَلِيٌّ يَعْنِي ابْنَ إِسْحَاقَ مَا يَقُولُهُ عَدُوُّ اللهِ مُحَمَّدٌ ـ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” هَذَا أَزَبُّ الْعَقَبَةِ هَذَا ابْنُ أَزْيَبَ، اسْمَعْ أَيْ عَدُوَّ اللهِ أَمَا وَاللهِ، لَأَفْرُغَنَّ لَكَ ” ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” ارْفَعُوا  إِلَى رِحَالِكُمْ ” قَالَ: فَقَالَ لَهُ الْعَبَّاسُ بْنُ عُبَادَةَ بْنِ نَضْلَةَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَئِنْ شِئْتَ لَنَمِيلَنَّ عَلَى أَهْلِ مِنًى غَدًا بِأَسْيَافِنَا، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” لَمْ أُؤمَرْ بِذَلِكَ ” قَالَ: فَرَجَعْنَا فَنِمْنَا حَتَّى أَصْبَحْنَا، فَلَمَّا أَصْبَحْنَا غَدَتْ عَلَيْنَا جُلَّةُ قُرَيْشٍ حَتَّى جَاءُونَا فِي مَنَازِلِنَا، فَقَالُوا: يَا مَعْشَرَ الْخَزْرَجِ، إِنَّهُ قَدْ بَلَغَنَا أَنَّكُمْ قَدْ جِئْتُمْ إِلَى صَاحِبِنَا هَذَا تَسْتَخْرِجُونَهُ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِنَا، وَتُبَايِعُونَهُ عَلَى حَرْبِنَا، وَاللهِ إِنَّهُ مَا مِنَ الْعَرَبِ أَحَدٌ أَبْغَضَ إِلَيْنَا أَنْ تَنْشَبَ الْحَرْبُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ مِنْكُمْ، قَالَ: فَانْبَعَثَ مَنْ هُنَالِكَ مِنْ مُشْرِكِي قَوْمِنَا، يَحْلِفُونَ لَهُمْ بِاللهِ مَا كَانَ مِنْ هَذَا شَيْءٌ، وَمَا عَلِمْنَاهُ، وَقَدْ صَدَقُوا لَمْ يَعْلَمُوا مَا كَانَ مِنَّا، قَالَ: فَبَعْضُنَا يَنْظُرُ إِلَى بَعْضٍ، قَالَ: وَقَامَ الْقَوْمُ وَفِيهِمُ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيُّ، وَعَلَيْهِ نَعْلَانِ جَدِيدَانِ، قَالَ: فَقُلْتُ كَلِمَةً كَأَنِّي أُرِيدُ أَنْ أُشْرِكَ الْقَوْمَ بِهَا فِيمَا قَالُوا: مَا تَسْتَطِيعُ يَا أَبَا جَابِرٍ، وَأَنْتَ سَيِّدٌ مِنْ سَادَتِنَا أَنْ تَتَّخِذَ نَعْلَيْنِ مِثْلَ نَعْلَيْ هَذَا الْفَتَى مِنْ قُرَيْشٍ، فَسَمِعَهَا الْحَارِثُ فَخَلَعَهُمَا، ثُمَّ رَمَى بِهِمَا إِلَيَّ، فَقَالَ: وَاللهِ لَتَنْتَعِلَنَّهُمَا قَالَ: يَقُولُ أَبُو جَابِرٍ: أَحْفَظْتَ – وَاللهِ – الْفَتَى  ، فَارْدُدْ عَلَيْهِ نَعْلَيْهِ، قَالَ: فَقُلْتُ: وَاللهِ لَا أَرُدَّهُمَا، فَأْلٌ وَاللهِ صَالْحٌ ، وَاللهِ لَئِنْ صَدَقَ الْفَأْلُ لَأَسْلُبَنَّهُ “(مسند احمد 89/25)

ونفهم من هذه الاحاديث الأمور التالية:

  •  أمر الله نبيه أن يعرض نفسه على قبائل العرب ليطلب منهم النصرة والمنعة. ونفهمها من قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
  • دعا نبينا الكريم قبائل العرب إلى الإسلام قبل أن يطلب منهم النصرة والمنعة. ونفهمها من قول نبينا عليه الصلاة والسلام: “أَدْعُوكُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ وَأَنْ تُؤْوُنِي وَتَنْصُرُونِي فَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ تَظَاهَرَتْ عَلَى أَمْرِ اللَّهِ فَكَذَّبَتْ رُسُلَهُ وَاسْتَغْنَتْ بِالْبَاطِلِ عَنِ الْحَقِّ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ“. أي إسلامهم شرط لطلب النصرة منهم.
  • طلب الرسول عليه الصلاة والسلام من ملأ القوم. ونفهمها من قول أبي بكر إلى رسول الله: “بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا وَرَاءَ هَذَا الْقَوْمِ غِرٌّ هَؤُلاءِ غُرَرٌ قَوْمُهُمْ” الأغَرُّ:يعني الكَرِيمُ، أي كَرِيمُ الأفْعَالِ وَجَمِيلُهَا، الوَاضِحُ فِي أعْمَالِهِ وَأفْعَالِهِ، السَّيِّدُ الشَّرِيفُ. ونفهمها من قول مفروق: “هَذَا هَانِئُ بْنُ قَبِيصَةَ شَيْخُنَا وَصَاحِبُ دِينِنَا” وكذلك من قول هَانِئُ بْنُ قَبِيصَةَ: “هَذَا الْمُثَنَّى بْنُ حَارِثَةَ شَيْخُنَا وَصَاحِبُ حَرْبِنَا”. كل ذلك  في هذا الحديث ما يدل على أن الرسول طلب النصرة من ملأ القوم. وقد أكدها قول نبينا الكريم في البيعة العقبة الثانية حيث قال: “أَخْرِجُوا إِلَيَّ مِنْكُمْ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا يَكُونُونَ عَلَى قَوْمِهِمْ“. اي اخرجوا منكم اثْنَيْ عَشَرَ مُقَدَّمُكم وسَيِّدُكم. والنقيب يعني كبير القوم وسيدهم الذي يمثلهم ويرعى شئونهم. ولهذا نقول أن الرسول طلب النصرة من الملأ القوم. 
  • دعا النبي عليه الصلاة والسلام منهم المنعة والنصرة معا لقوله عليه الصلاة والسلام: “وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ وَأَنْ تُؤْوُنِي وَتَنْصُرُونِي فَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ تَظَاهَرَتْ عَلَى أَمْرِ اللَّهِ فَكَذَّبَتْ رُسُلَهُ وَاسْتَغْنَتْ بِالْبَاطِلِ عَنِ الْحَقِّ” وكذلك قال للأنصار: “أُبَايِعُكُمْ عَلَى أَنْ تَمْنَعُونِي مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ نِسَاءَكُمْ، وَأَبْنَاءَكُمْ

 فلنطبق هذه الأمور في وضعنا اليوم لكي يقيم الخلافة على منهاج نبينا الكريم:

وبما أن الرسول طلب هذه السلطة ممن يملكها فإنه شرط أن يطلب هذه السلطة ممن يملكها. فلا يجوز طلب هذه ممن لا يملكها كمتشددين أو معارضين أو مسلحين فإنهم لا يملك السلطة بالأصل. وبما ان الرسول لم يأخذ هذه السلطة ممن يملكها كراهة على الرغم فشلها بشكل استمرار عند طلبها من قبائل العرب حتى نصروه الأوس والخزرج فإنه لا يجوز أخذ هذه السلطة كراهة أي لا يجوز قيام الإنقلاب.  وبعبارة اخرى انه لا يجوز أخذ هذه السلطة من خلال جعل الحرب الأهلية حيث سفكت فيها دماء المسلمين. ونفهمها من قول نبينا عليه الصلاة والسلام للأنصار اذا سأله عن قتال قريش فقال: “لَمْ أُؤمَرْ بِذَلِكَ

 وبما أن الملأ الآن ينقسم الى فريقين اي القادة الجيوش و من يؤثر العرف العام في المجتمع، وبما أن السلطة تكمن في القادة الجيوش فإنه تطلب هذه النصرة والمنعة منهم. أما من يؤثر العرف العام في المجتمع، فيُدعون إلى الإسلام والدعوة لإقامة الخلافة لكي يحول العرف العام في المجتمع صالحا للإسلام.

هذا ما نرى في إقامة الخلافة على منهاج النبوة. الله اعلم.